ما مكونات الإرادة الجماعية للشعب السوري؟

ظروف البلدان ليست موحدة، وليست واحدة.. والعاقل من اتعظ بغيره

ما مكونات الإرادة الجماعية للشعب السوري؟ ثم إلى أين تتجه هذه الإرادة؟ هل نريد تطوير بلادنا وبيتنا المشترك أم نريد تدميرها؟

 

أشدّد جداً على كلمة تطوير بلادنا كي أميز بينها وبين كلمة «تغيير» منعاً للالتباس. مفردة تغيير هي مفردة إشكالية تحتمل البناء والخراب معاً. وتحتمل التقدم والتراجع وحتى حدود الانهيار والتلاشي. أما التطور والتطوير فهما حصراً حركة اجتماعية تاريخية تعني التقدم المستمر إلى الأمام. وتعني التصاعد باتجاه الأرقى والأعلى في سلم القيم وبناء الأوطان وحماية تاريخ الشعوب. من موقع الانتماء العقلي والروحي والوجداني للوطن أولاً وللأمة بمجموعها. وفي مواجهة هذا الإعصار المجنون الذي يجتاح الوطن كيف نقرأ ما يجري في بلادنا الحبيبة سورية؟ وكيف نعرّي الخيط الأبيض من الأسود لنعرف موضع أقدامنا؟! قبل كل شيء هذه بلادنا، ملاذنا الوحيد، وهي لنا جميعاً رغم أنف الفساد والفاسدين. البلاد بأهلها ولأهلها فهل نتركها تضيع؟
حساسية الوضع السوري المتشابك داخلياً عربياً إقليمياً ودولياً هل تسمح لنا ولأي مواطن لديه الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية أن نسلم مفاتيح الأمن والأمان فيها. وأن نترك الخيارات الإستراتيجية الكبرى التي تحدد مستقبلنا جميعاً لغوغاء الشارع في زمن العولمة. الشارع الذي كثيره من الخارج وأقل القليل من الداخل.

ظروف البلدان ليست موحدة، وليست واحدة.. والعاقل من اتعظ بغيره

 
«إن لم نمت بعد فإننا نرى يومياً من مات ومن يموت» العراق ليبيا اليمن السودان الصومال وغيرها وغيرها. النحيب على الموتى لا يعيدهم إلى الحياة. الندم لا يفيد بعد فوات الأوان. بل يصدق القول المشهور دائماً: «الندم بعد الموت أقسى من الموت». هذه سورية ستة آلاف عام من الحضارة. ومن العيش الإنساني الراقي رغم كل شيء. خياراتنا مفتوحة حتى في اللحظة التاريخية الراهنة وحدودها الأفق المفتوح على المدى اللانهائي. فِلمَ نحشر أنفسنا في الممرات الضيقة والخيارات الأحادية والتدمير العشوائي لبلادنا؟ هل لأحد منا مصلحة في العودة إلى ما قبل العصور الوسطى؟! وهل من العقل في شيء أن نستبدل قتال العدو بالاقتتال الداخلي؟! وقيمة الشهادة ورمزيتها بالموت المجاني في الأزقة والزواريب والحارات صمامات الأمان بين أيدينا. فلم نتخلى عنها طوعاً لأعدائنا؟

قلنا إن الخصوصية هي ما يميز بين بلد وآخر في الظروف الموضوعية ولسورية خصوصيتها التي سنحاول إيجازها في هذا البحث.
لقد أنجزت فرنسا ثورتها في قلب القارة الأوروبية منذ قرون مضت بينما تأخرت إسبانيا والبرتغال من القارة نفسها حتى سبعينيات القرن الماضي، لا أدعو إطلاقاً لتأجيل إصلاح يمكن إنجازه الآن لكني من العقل والقلب والضمير وعيني على بلادي أدعو لإيقاف الخراب. هل وصل التناقض في بلادنا إلى حد التناقض والصراع التناحري الإلغائي؟ وهل فقدنا القاسم المشترك الأعظم بيننا جميعاً مهما تعددت وتنوعت آراؤنا السياسية ومواقفنا؟ ولا أقول أبداً طوائفنا ومذاهبنا فذاك خط أحمر مشبوه لأن الانتماء الكبير والجوهري للوطن يسقط كل ما هو دونه من انتماءات دونية لا قيمة لها بالمعني الوطني والإنساني. وقد أكدت في بحث سابق أن كل طائفي ومذهبي في الوطن العربي هو جزء من المشروع الأميركي- الإسرائيلي سواء أكان يتقاضى على ذلك أجراً أم يعمل له بالمجان. وعلينا أن نتعامل معه على هذا الأساس. أي على أنه جيب إسرائيلي داخل الوطن. لست من السلطة إطلاقاً، ولا من فوضى الشارع ، لا حاجة لي بالسلطة ولا مصلحة، ولا بالشارع والغوغاء وغياب العقل وتحكيم الغرائز والعقد النفسية والسوابق الجنائية، فأنا شديد الانتماء لبلادي وعقلي وحريتي، لم أرَ سورية يوماً إلا بيتي، ولم أر أهلها إلا أهلي، لم ولن أميز يوماً بين لون أو عرق أو دين أو جنس، «كلنا عيال اللـه وأحبنا إليه أنفعنا لعياله». ما يجري الآن يدمي القلب، ويخلق الرعب على مصير البلاد والعباد. يجب ألا نتنكر للحقيقة. وإصبعنا لا تكفي لإخفائنا. جاء الوقت لتشخيص الداء وتحديد الدواء كي نخرج جميعاً من هذه المحنة الوطنية. لماذا يجري في سورية ما يجري؟! وما الخصوصية السورية؟
إذا كان البعض في بلادنا بحسن نية أو بغير ذلك يقول: لقد تعبنا من الشماعة الإسرائيلية التي نعلق عليها ونبرر كل أخطاء أنظمة الحكم.

 


منذ عام النكبة حتى الآن، وفي كل يوم تتسع خريطة إسرائيل وتضيق خريطة فلسطين، لم يعد العقل العربي على استعداد لقبول خطاب النظام الرسمي العربي ووسائله الإعلامية، لقد بلغ حد القرف من هذه اللغة القديمة التي بدأ التاريخ العربي يتقيؤها أيضاً، مع كل هذا التقدير، شئنا أم أبينا فإن كل صياغة حقيقية فيه للمشروع النهضوي العربي، ولاستراتيجية الأمن القومي لا بد أن تتوقف طويلاً وتأخذ بالحسبان حالة الشذوذ التاريخي في المنطقة التي بدأت وما زالت مع نشوء وبقاء الكيان الصيهوني، «إسرائيل» ليست شماعة فقط، هي علة العلل وقضية القضايا.
وسورية هي مركز التوازن وحاضنة الفكر المقاوم وصمام الأمن القومي العربي منذ خرجت مصر أو أخرجت قسراً من هذا الصراع بموجب معاهدة كامب ديفد. قضية المقاومة والممانعة ليست مجرد وجهة نظر إنها الخيار التاريخي الوحيد لإنقاذ الأمة من التفكك والانهيار. وقد تلاقت الإرادة السورية مع هذا الاختيار على مستوى الشعب والقيادة والضرورة التاريخية حرب المواقع بأدواتها المختلفة مستمرة بيننا وبينهم، إنها صراع إرادات ومناطحة حقيقية بين مشروعين لإعادة تشكيل هذه المنطقة وترتيب وضعها التاريخي. ولأن المدى الإستراتيجي الأميركي الإسرائيلي في المنطقة بدأ يضيق بعد فشل الغزو الأميركي للعراق وبعد حربي تموز وغزة وما تلا ذلك من أحداث كبرى ذات دلالة تاريخية في ثورتي تونس ومصر.

 


ومن ترتيب للوضع الإقليمي خارج الإرادة والمصلحة الأميركية الإسرائيلية بتلافي الإرادات التركية والإيرانية والسورية وقوى الممانعة والمشروع النهضوي العربي الجديد. إن هذا الترتيب الذاتي للشرق الأوسط الجديد لا يمكن إسقاطه وتخريبه إلا من خلال كسر الحلقة السورية التي تشكل المركز في الدائرة الإقليمية. لقد بدأت هذه المحاولات مع غزو العراق ولا تزال مستمرة حتى الآن.


التدمير لا يترك لنا بلاداً
نطبق فيها الديمقراطية

المسألة ليست تلفيقاً سياسياً ولا بحثاً عن ذرائع وأعذار بل هي واحدة من الحقائق الكبرى في قضايا الصراع التي يجب ألا تغيب عن عقل ورؤية أي باحث أو متتبع لقضايا المنطقة. وعلى كل سوري وطني ألا يكون أقل حرصاً على أمن بلاده . إن انهيار منظومة الأمن العربي والإقليمي المقاوم المتمركزة داخل سورية سيفتح بوابات الجحيم على قوى المشروع التاريخي النهضوي في المنطقة. وكي ينجح هذا المشروع الخارجي لا بد له أن يدمر سورية ولا مكان هنا لأنصاف الحلول إطلاقاً، إذ ذاك لن نجد بلاداً نطبق فيها الديمقراطية، ونتداول السلطة سلمياً فوق أطلالها المدمرة.


ما يجري لا يستهدف تغيير سلطة بأخرى بل يستهدف تدميرنا جميعاً ومصادرة التاريخ العربي الجديد الذي بدأ يتشكل.
في الخصوصية السورية أود التأكيد أن الشعب السوري يكاد يجمع حول الخيارات الإستراتيجية الكبرى في السياسة الخارجية. ويكاد يجمع أيضاً على أننا فشلنا حتى الآن في حربنا على قوى الفساد والإفساد.

لكن هذه الحقيقة ليست نهاية التاريخ. والفساد كالإرهاب لا يمكن مواجهته وإسقاطه بسياسات أمنية أو قرارات فوقية، لا يمكن القضاء عليه إلا بتدمير حاضنته الاجتماعية وذلك لا يمكن أن يتم إلا بإرادة شعبية حرة جريئة ومحمية تحت سقف القانون والنظام العام. الفاسدون أقلية، واستئصالهم لا يقتضي تدمير البلاد، ولا ممارسة كل هذا الخراب. لقد بدأت السلطة خطوات كبرى باتجاه الإصلاح وعلى الآخرين أن يلاقوها في منتصف الطريق كي ينبع التطوير السوري من تلاقي الإرادات السورية الخالصة ودون تدخل خارجي، مسؤولية كل الشرفاء في هذا الوطن دون تصنيفات جاهزة وقديمة بين موالاة ومعارضة. لأننا جميعاً نوالي الوطن. مسؤولية الجميع العمل الحقيقي والجاد كي نتجاوز جميعاً هذه المرحلة الانتقالية بأمن وسلام واستقرار دون أن نقتل عصفوراً أو نسحق وردة أو ننزع ولو حتى حجر رصيف في أي موقع من بلادنا.

حركة الشارع المحدودة والمحقة في بعض جوانبها تشابكت الآن وتداخلت دون أن تدري ودون إرادة منها مع عناصر الفوضى وأصحاب السوابق الجنائية وقوى الإرهاب السلفية والجريمة المنظمة وقوى الاستخبارات العالمية. الويل الويل لبلاد تتحول إلى ساحة اختبار لكل هذه القوى التدميرية، بقليل من الصبر والحكمة تصل السفينة السورية إلى شاطئ الأمن والأمان، ونحتكم جميعاً إلى صناديق الاقتراع في دولة مدنية حديثة وعصرية وتحت سقف الدستور بدلاً من جنون الشارع والدمار المنظم لبلادنا.

علي صالح محفوض- الوطن