ما يثير دهشتي

 

 

كفى الزعبي - بلدنا

 

 

قبل فترة وجيزة، قرأت مخطوطة رواية لشاب، طلب مني أن أُبدي فيها رأياً. يُعيد الكاتب، في مشروع روايته، تقديم الصورة النمطية الشعبية للمرأة "المحترمة": فتاة متعلّمة، تعي دورها في المجتمع، وفي الأسرة، وبالضرورة متديِّنة ومحجّبة.. وتتفوَّق هذه الشخصية في الرواية، بخطابها وحضورها، على شخصية أخرى هزيلة لفتاة سافرة وسخيفة وتكاد تكون- حسب رؤية الكاتب- عاهرة. كنتُ أغلقت المخطوطة وأنا أقول لنفسي بيأس: ربما هؤلاء هم كتّاب المستقبل، الذين سيُسمح لهم بالنشر، وهذا هو الأدب الذي سيُدرّس مستقبلاً في مدارسنا وجامعاتنا..

بيد أنَّ هذا الاحتمال لم يشعرني بالخوف على الأدب، إذ يطيب لي أن أبقى على يقينِ أنَّ الأدب مثله مثل أيِّ حقل آخر من حقول الإبداع الإنساني؛ عصيٌّ على التدجين، وعلى الأسر في مساحة حُدِّدت فيها سلفاً نماذجُ متصلّبة للصالح والطالح، للخير والشر، حسب رؤى دينية أو اجتماعية سائدة، تحتاج أقل ما تحتاج إلى إعادة النظر في مكوّناتها وأسسها.  
    
لكنني عددت هذه المخطوطة كإحدى نتائج مرحلة ما يسمَّى بـ"الربيع العربي"، وجنوح بعض الشباب إلى كتابة أدب ينسجم في رؤيته للواقع وللمرأة وللعلاقات، مع الرؤية العامة، وهذا أمر ليس بالمدهش.
فضلاً عن هذه المخطوطة، هناك ما هو أخطر: موقف الإسلاميين المتشدِّد من المرأة، واختزالهم وجودَها بجسدها، وتكريس النظرة إلى هذا الجسد على أنه عورة وسبب للفتن، وربما لكلِّ مآسي المجتمع، لهذا وجب حجبه، ولهذا وجب الانشغال به ربما أكثر من الانشغال بقضايا الوطن، حتى إنَّ مشكلة المرأة وجسدها تستولي على القسط الأكبر من تصريحاتهم وبرامجهم ووعودهم وتوعّداتهم وفتاويهم. وهذا أيضاً ليس بالأمر المدهش، فموقف رجال الدين من المرأة معروف ومفهوم.

 


فضلاً عن الدين ورجالاته، هناك عقلية عامة تتبنَّى في ثوابتها هذه النظرة إلى المرأة، وربما يمكن اختزالها في الحجّة الطريفة، والواهية في الحقيقة، التي يسوقها هؤلاء الذين يدافعون عن المرأة، كوجود إنساني، وليس كجسد وحسب: المرأة أمّ وأخت وزوجة وابنة، فكيف لانقدِّرها ونحترمها؟!؛ أي أنها قريبة، بمعنى من المعاني، للرجل، لهذا تستحقُّ التقدير. ولكن، ماذا لو لم تكن قريبة لأيّ رجل؟، ماذا لو كانت امرأة وحيدة: لم تتزوَّج ولم تحبّ، ومات جميع أقاربها في حادث مأساوي؟.. ماذا لو كانت مجرد امرأة وحيدة، ليس لديها رجل تُلحق به؟!..

 


هذه الحجة أيضا لاتبعث على الدهشة، فنحن لانكفُّ نسمعها في كلِّ زمان ومكان.
إنها دائرة لست أدري إلى متى سنبقى نلفُّ وندور في داخلها ونحن نُعيد إنتاج خطابها الذي يتباهى الكثيرون بأنه أصيل: من إنتاجنا نحن، ولم نستورده من الخارج. كأننا عاجزون عن إنتاج خطاب آخر أصيل ينسجم مع إنسانيتنا، وينتقد بجرأة، بل ويشعر بالخجل مِن، النظرة الدونية للمرأة التي تبنَّاها العقل العربي ذات يوم، ووشمها بختم: "ثابت إلى الأبد".. هذا الختم ليس بمدهش أيضاً، فقد اعتدنا عليه، ونحن نشعر به يومياً غائراً في وجداننا وثقافتنا، مثل أثر لايمحى لمطعوم تناولناه في تاريخنا على جرعات، ليحصنِّنا، وإلى الأبد، من سحر شيطاني يدعو إلى حرية المرأة وتحريرها، جسداً وعقلاً، مِن هذه المسلّمات.

ما يثير دهشتي في الحقيقة، ليس كلّ ذلك، مع أنه مثير للدهشة بحق.. بل تثيرها المرأة ذاتها، التي تتبنَّى هذا الخطاب، وهذه الرؤية، وتدافع عنهما، تماماً مثلما يدافع السجين عن سجّانه. وهي دهشة حقيقية، وليست مجازية، كأن كلّ كلمة في هذا الخطاب تجعلني في كلِّ مرة أسقط من عالمي إلى عالم آخر، لأكتشف حجم الهوة التي تفصل العالمين؛ هوة أجتازها بلحظة وأنا فاغرة فاهي، حتى إنني بتُّ أخشى الخبل. أصارح إحدى صديقاتي بذلك: "ما يحدث يدهشني بشدة!"، فتسألني بفضول: "ما هو ذاك الذي يحدث؟"، أقول: "إذعان المرأة وقبولها باحتقار هذا المجتمع لها!".. فتبدأ صديقتي تسوق الحجج التي تبرِّر للمرأة هذا القبول، وتعود إلى التاريخ والمثيولوجيا والدين وعلم الاجتماع والعلاقات الاقتصادية والسياسية، وسلطة الأب والفكر الذكوري، وعلاقة واقع المرأة، على مدار المراحل التاريخية، بكلِّ ذلك.. أتَّفق مع صديقتي في كلِّ ما تقول، لكن ذلك لايعالج دهشتي، إذ يبدو لي أنَّ المضطهَد (على مدار مراحل التاريخ) كان يحتمل الاضطهاد لفترة، عادة ما تكون وجيزة، ثم ما يلبث أن يثور.. فما بالك بالمرأة التي لاتعاني الاضطهاد الاقتصادي والسياسي وحسب، بل والاحتقار الاجتماعي والجنسي فوق ذلك!.. لماذا هذا الإذعان والصمت التاريخي المزمن؟.. ولكن- استطرد في حديثي مع صديقتي- أرجوك لاتفهمي كلامي على أنني من دعاة الفكر النسوي الذي يدعو المرأة لأن تثور على الرجل، فهذا الغباء عينه.. أنا ببساطة أقول، إنَّ المنطق والتحليل النظري واستنتاجاته العقلانية، تفيد بأنه يجب على المرأة المضطهدة، مثلها مثل الرجل، والمحتقرة فوق ذلك لأنها امرأة وحسب، كونها الضحية الأولى لمنظومة الفكر الأبوي الذكوري، أن تقود الآن ثورة لاتبخل فيها بالتضحيات، من أجل استرداد كرامتها كإنسان كامل الإنسانية، وليس مُلحقاً لإنسان آخر.. ثورة تطرح فيها هذا الشعار (شعار الكرامة) إلى جانب شعارات العدالة الاجتماعية والديمقراطية والتحرّر الوطني وفك التبعية للإمبريالية!.. بيد أنَّ ذلك لايحدث، بل إنَّ وجود المرأة في الشارع وفي الفكر والثقافة وفي السياسة، يقلُّ بكثير عن وجود الرجل. لماذا لم تجرؤ امرأة واحدة على الأقل- وهن كثيرات كثيرات- مُهانة ومُذلة ومُحتقرة، على الخروج إلى الشارع وإشعال هذه الثورة، على طريقة بوعزيزي، بحرق نفسها على مرأى من الناس، احتجاجاً ليس على الفقر والقمع السياسي، بل على الاحتقار التاريخي لها، الذي يتجسَّد يومياً، سواء على يد زوج أم أخ  أم أب، بل وربما أم، أو على يد خطاب ديني وفكري عام، ونظرة اجتماعية عامة لايرفع رايتها الرجال فقط، بل الكثير من النساء أيضاً؟.. حينذاك، ذكَّرتني صديقتي بثورة اليمن، وبالحضور الكثيف للنساء فيها، فداهمت مخيلتي على الفور جموع هائلة لنساء ملفعات بالأسود، يثرن على قيود نظام سياسي قمعي، من أجل إقامة نظام آخر، لاأستطيع الحسم ما هو وعلى أيِّ شكل يردنه أن يكون، لكن سواد لباسهن ومنظرهن من بعيد يبدو مثل سحابة سوداء تخيِّم على الأرض، وأغلب الظن أنها حبلى بمطر أسود!.. إنَّ ذلك يبعث على الدهشة.. وعلى اليأس أيضاً.