محمل الحج الشامي.. مهرجان من الفرح أوقفه القطار!!

تيسير أحمد - شام نيوز
مع ظهور الخط الحديدي الحجازي مطلع القرن العشرين اختفى وللأبد أهم طقس للحج عرفته بلاد الشام منذ الدولة الأموية، والذي استمر دون انقطاع وبشكل سنوي حتى 1908 مع أول رحلة انطلقت بالقطار إلى المشاعر المقدسة.
كانت مسيرة المحمل الشامي تستغرق خمسين يوماً يعاني فيها الحجاج للكثير من الأخطار، منها ما يتعلق بالطقس حيث كانت غالبية الطريق تسير في الصحارى القاسية، وتتعرض لعمليات السطو المتكررة من البدو، بل تتعرض لبعض الأوبئة نظراً لتقلبات المناخ وتغير البيئات.
وكانت دمشق مركزاً رئيسياً للحجاج القادمين من إيران وأفغانستان والعراق والأناضول والبلقان وسواها من البلدان الإسلامية.
أما المحمل الشامي الذي كان ينطلق من مدينة دمشق فهو قبة رائعة الصنعة، على شكل خيمة بشكل مخروطي متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ، وعليها كسوة من رفيع الديباج، وقد غطي بقماش مخملي أخضر كتبت عليه بالقصب، آيات من القرآن الكريم، يحمله جمل مزركش بأنواع الأقمشة وكذلك الشموع والزيت، لإضاءة الحرمين الشريفين. ومن الأسر الدمشقية التي اهتمت بتلبيس كسوة المحمل الشامي في كل سنة، من قبل الدولة العثمانية، أسرة بني المحملجي، وهي من أسر صالحية دمشق المشهورة.
المحمل الشامي
أما الصنجق، فهو علم النبي (ص) وكان يحمله خلف جمل المحمل، جمل آخر ويمسك بكل جمل، موظف خاص يلبس هنداماً خاصاً ومزركشاً، وكانت الجماهير تحيط بهذين الجملين، وكان البعض يعتقد أن لمس أحدهما يجلب البركة والربح الكبير.
تفاصيل المحمل الشامي
في كتابه "دمشق في مطلع القرن العشرين" يوضح "أحمد حلمي العلاف" كيف كانت ترتب شؤون الحجيج أيام الدولة العثمانية، والتفاصيل الدقيقة لكل مراسم المحمل الشامي بدءاً من الإعداد له مروراً بمسيرته وانتهاء بالاحتفالات التي يقيمها الدمشقيون بعد عودة الحجاج من الأراضي المقدسة، وكانت هذه التفاصيل قد عُرضت في مسلسل "الخوالي" لبسام الملا.
تبدأ مراسم المحمل في اليوم الأول لعيد الفطر، وتسمى "مراسم الزيت والشمع والمحمل"، حيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي، وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وبعض كبار الموظفين، وبعد الانتهاء تجرى حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين.
في "يوم الزيت" وهو الثاني من شوال كل عام، يتم الاحتفال بنقل الزيت من "كفر سوسة" أحد ضواحي دمشق في الماضي، وهو أحد أحيائها اليوم ضمن ظروف على ظهور الإبل حتى "الكيلار" في البحصة، وهو المستودع الخاص بأدوات محمل الحج.
احتفالات الحج في البحصة عام 1900
أما في اليوم الثالث من شوال (يوم الشمع) فينقل الشمع باحتفال رسمي أيضاً، من الدار التي سكب فيها في "كفر سوسة" ووزنه ثلاثة قناطير، وماء الورد من محصول قرية "المزة" -وهو حي المزة المشهور في دمشق اليوم- ووزنه نحو قنطار، والملبس ووزنه عشرة أرطال، ويُحمل الشمع على أعناق الرجال ملفوفًا بالشال "الكشمير" لإهدائه إلى الحرمين، وفي يوم السنجق، يُخرج السنجق الشريف "الراية أو اللواء" وهو كلمة فارسية، من القلعة حيث يُحتفظ به، وينقل باحتفال مهيب إلى دائرة المشيرية، ليستقبله المُشير ويضعه في قصره.
أما اليوم الرابع من هذه المراسم، فهو (يوم المحمل)، حيث يخرج موكب الحج الشريف مع المحمل والسنجق إلى حي الميدان، ثم باب مصر، ومنه إلى قرية القدم التي فيها قبة جامع "العسالي"، وتحت هذه القبة، يوضع المحمل نحو عشرة أيام، ريثما تنتهي أسباب السفر إلى الحجاز.
تتكون قوافل الحج الشامي من عدة فئات تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم، ولكن من هذه الفئات وظائفها: فالسقاة، كانوا يحملون القرب لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. والبّراكون، هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. والعكّامة وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضًا، وأصحاب المشاعل، وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت، وطائفة أصحاب الخيم، ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون، مهيؤون لتأمين راحة الحجاج فأهل حي الشاغور وقصبة دوما للجمال، وأهل الصالحية كان أكثرهم للسقاية والمشاعل وللبراكة، والبياطرة منهم أيضًا، والجنود يخدمون أنفسهم، أما الأمير وأتباعه فإن مئات الأشخاص يكونون تحت خدمته وخدمة معاونيه.
محمل الحج أمام المشيرانية (دار الحكومة العثمانية)
كان أمير الحج يخرج من سراي الحكم "المشيرية أو العسكرية" على رأس موكب الحج بين 15–17 شوال، ويتخذ طريقه: الميدان، مجتازًا باب المصلى، ثم الميدان الفوقاني، إلى باب الله أو بوابة مصر، في ممر يمتد نحو ثلاثة كيلومترات متجهًا إلى قرية مزيريب، وبعد خروج الحج ببضعة أيام "من يومين إلى خمسة" تخرج قافلة الحج الشامي من الطريق نفسه، يتلوها قافلة الحج الحلبي، ومعهم حجاج العجم، ويبقى الجميع في مزيريب حتى يتم خروج الموكب بأجمعه، وكانت رحلة الحج الشامي تستغرق أربعة أشهر من شوال حتى صفر في طريق الذهاب والاياب.
الحبوب والمحبوب
بعد انتهاء مناسك الحج، يتجمع الحجاج في المدينة المنوّرة حول المحمل والسنجق ويعودون في نفس الموكب الذي ذهبوا به، وحين يقارب وصولهم إلى دمشق، تستعد الحكومة والأهالي لاستقبالهم باحتفالات كبرى.
تعظيم أهل دمشق للحاج
وكان من عظم أمر أهل دمشق تعظيمهم للحاج عند عودته، إنهم يلاقونه بالعناق والقبلات ويحملونه على الأكتاف، ويتمسحّون بثيابه ويقبّلون يده التي لمست الكعبة الشريفة تبركاً.
وقد حُدثتُ أن من النساء من كانت تلتقي بالحاج وتناوله الرغيف فيعضّ عليه فتأخذه منه لتأكله تبركاً.
يوم عرفة في الجامع الأموي
كان من أهل الذين لم يكتب لهم أن يكونوا من ضيوف الرحمن لأداء فريضة من يقف في صحن المسجد الأموي بعد صلاة العصر من يوم عرفة، ومعهم أئمتهم وشيوخهم، كاشفين رؤوسهم داعين لله خاشعين ولا يزالون في خشوع وتضرّع وابتهال وتوسّل إلى الله إلى أن تغيب شمس ذلك اليوم، فينفرون كما ينفر حجاج بيت الله الحرام من عرفة.. داعين الله أن يجعلهم بضيافته في العام القادم على صعيد عرفة. فقد كان من أهم ما يصبو إليه المرء أداء هذه الفريضة. كنت ترى المرء في مطالع القرن العشرين، يدخّر القرش فوق القرش على أمل أن يكون بضيافة الرحمن في وفد الحج الشامي إلى بيت الله الحرام على ما كان يعانيه الحاج من مكابدة وعناء، وما يركبه من مخاطر وأنواء، في رحلة تستغرق عدة أشهر. حتى قيل إنّ الحاج عندما يغادر دمشق يُعدّ مفقوداً، وعندما يعود بالسلامة يُعدّ مولوداً.
عودة الحجيج
يسبق وصول وفد الرحمن «الحجيج» أن يصل المبشّر بسلامة الحاج إلى دمشق بيومين أو أكثر، وهذا المبشّر كان يعرف بالجوقدار، وكان يحمل معه رسائل الحجاج إلى ذويهم، فيسلمها إلى شخص يثق به، وهذا بدوره يوزع تلك الرسائل لأصحابها الذين يأخذون مع أمثالهم من أهالي الحجيج بالاستعداد لاستقبال حجيجهم فيقومون بنصب الزينة والأضواء في بيت الحجاج وعند مدخل البيت ويخرج بعضهم جماعات جماعات للاستقبال عند خان دنون أو أبعد من ذلك، ثم ترافق كل جماعة حاجها وقد حملوه على الأعناق. ويكون في استقبالهم في الحي جماعة أخرى، تستقبلهم بعراضة توصل كل حاج من حجاج الحي إلى منزله، ويكون في مقدمة الموكب الحجاج والوجهاء ورجالات الحي.
السلام على الحاج
ما إن يصل الحاج إلى داره حتى يتوافد إليه الأهل والأقارب والجيرة للسلام عليه والمباركة له بقولهم: حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وتجارة لن تبور، فيدعو الحاج لهم، ويتناولون القهوة ويشربون شيئاً من ماء زمزم. ثم ينصرف الجميع ليتاح للحاج أخذ قسط من الراحة لبعض الوقت. وبعد فترة تتوافد جماعات الغجر بطبولها ودفوفها وزمرها. فيغنّين ويرقصن ويهزجن، حتى إذا نلن أجرهن، انتقلن إلى دار حاج ثان وثالث، وقد يأتي بعد فترة غيرهن وغيرهن على سبيل التكسّب والارتزاق. وبعد صلاة العصر من يوم وصول الحاج يستقبل الحاج ضيوفه من المهنّئين والمباركين، ويستمعون إلى دعواته لهم، وإلى ما لقي من وعثاء وعنت في الطريق، وقد يسأله بعضهم عن أقارب أو معارف لهم لم يصلوا بعد. ويقدم لهؤلاء الضيوف شربة من ماء زمزم، وبعض تمر المدينة المنورة ومسبحة على سبيل الاستذكار فضلاً عن القهوة العربية والنوكا والسكاكر.. وتستمر هذه الزيارات ثلاثة أيام من بعد عصر كل يوم حتى صلاة العشاء. بعد ذلك يأتي دور النساء بالمباركة، ثم الأقارب والمعارف.
النقوط للحاج
وكان النقوط ينتظر الحاج لحظة وصوله بالسلامة، وكانت أغلب الهدايا من الأهل والصحب والجوار، فهذا ينحر له خروفاً لدى دخوله عتبة باب المنزل، وهذا يرسل له السمن وآخر السكر والرز ومنهم من يعد الطعام لكل من صادف وجوده في منزل الحاج للسلام عليه ساعة وصوله، وهذا بالطبع من شأنه أن يخفف على الحاج أعباء القيام بالواجب تجاه المسلّمين عليه والمباركين بعد انقطاعه عن كسبه مدة قد تصل إلى ثلاثة أو أربعة أشهر.
الهدايا التي حملها الحاج
بعد انقضاء فترة الاستقبال، تفك الأحزمة وتُخرج الهدايا من حنّاء وماء زمزم وتمر المدينة وسجاجيد للصلاة وسبحات ومسوك وأحجار كريمة وخواتم عقيق وفضة وطاسات نحاسية للحمام وللرعبة وكاسات مكاوية. وهذه الهدايا توزع على الأهل وعلى كل من قام بمهاداة الحاج من الصحب والجوار.