مرّات بيطلع من ملل...

 

هيام حموي. البعث

كانت الطفلة في الخامسة أو السادسة من عمرها الغضّ حين تجرأت ذات يوم على عصيان توصيات أمها بشأن قضية لا تعدو مسألة نظافة اليدين قبل الجلوس إلى المائدة، فإذا بها تسمع للمرة الأولى، وأمها تنهرها، عن عقاب الآخرة في يوم القيامة.

 


كان أكثر من طبيعي أن يستيقظ فضول الطفولة لطلب المزيد من الشرح حول الموضوع، فالكلمات غير مألوفة: "آخرة"، "قيامة"، "عقاب"، وإن كان مفهوم العقاب قد بدأ يترسّخ في الوعي الناشئ، لكن ماذا عن القيامة في الآخرة؟ جاء الشرح غير مستفيض إن لم نقل مقتضباً من شارح حائر أمام طفولة لا تشبع استفهاماً واستفساراً: "تنتهي الحياة على الأرض وننتقل إلى السماء ويبدأ يوم الحشر، ونقف بانتظار محاسبة الخالق الذي يحتفظ عنده بسجلاّت دوّن فيها الملائكة كل أفعالنا، الصالح منها والطالح، دون استثناء، والمحاسبة، يا للهول ويا للفضيحة، ستكون أمام الجميع".

  


كيف يمكن للمخيّلة الطفولية احتواء فيض الصور والأسئلة التي تزاحمت في الرأس الصغير على وقع هذه الكلمات؟ أين سنقف، وهل سننتظر طويلاً، وهل سأكون معك يا أمي؟

  


مرّت السنوات، ومرّ عددٌ هائلٌ من الأفعال الصالحة والطالحة في حياة الطفلة التي بلغت سن الرشد وأكثر، كان مَن حولها يخاف حلول العام ألفين، انتظرَتْه بفضول لترى كيف سيكون "يوم الحشر" الموعود، لكن التاريخ المرتقب مرّ من دون انهيارات اللهم إلا في القيم والأخلاق، حتى الأطفال الذين كانوا في مثل سنها يوم اكتشفت قصة "الآخرة" ما عادوا يغسلون أيديهم قبل الطعام، وما عادت أمهاتهم يلجأن للتخويف بشأن هذا الموضوع البائس بين الذنوب، بل صار الأبناء يعمدون إلى تجاوزات أخطر بكثير من دون اكتراث أي أحد  في محيطهم بشأن ما يفعلون.

  

 


عادت وتذكرت يوم القيامة والمحاسبة العلنية، على الملأ وأمام جميع الأحياء، يوم تابعت على شاشات الإعلام العالمي محاكمة الرجل المتربع على كرسي الرئاسة في بيت بلون النقاء، في عاصمة  الدولة الأعظم، كان ذلك في العام 1998 بتهمة الزنى مع مرؤوسته الشابة، كذب الرجل تحت القسم، ثم عاد واعترف بأنه جافى الحقيقة، ولم يحدث شيء مما كان يمكن أن يكون عقاباً جديراً بالخطيئتين "المميتتين"- الكذب والزنى- حسب بعض الشرائع المعترف بها دينياً ودنيوياً، لا بل صار مستشاراً مرموقاً ومحاضراً مدعواً للإدلاء بآرائه السياسية ونظرياته في التفاوض والتعامل مقابل ملايين الحفنات من عملة بلاده الخضراء التي نقشت عليها العبارة الشهيرة "ثقتنا بالربّ"...

 

 


في مرحلة تلت، جاء خَلَفٌ للرجل السابق، وأطلق مع مجموعة من رجاله طائفة أخرى من الأكاذيب التي أدت إلى تدمير بلد بأكمله على رؤوس أبنائه، وعاد الخلف ليتراجع عن أقواله وأقوال معاونيه, ولم يتردد في الاعتراف بكذبه وكذبهم، وانتظرت الطفلة القابعة في أعماق المرأة الناضجة، أن تحلّ اللعنة على الكاذبين، وما زالت تنتظر...

 


شاء الخالق أن يمدّ في عمر المرأة التي عصت توصية أمها وهي طفلة، فعاشت لتشهد زمناً يشبه يوم القيامة، لكن في إطار التكنولوجيا الحديثة، جاء من جديد رجل يحمل في نصف اسمه الأعجمي كلمة ترجمتها من اللغة الفرنسية "ملاك"، فكان بشكل من الأشكال ملاك الفضائح التي تمّ تسريبها بالتفصيل الممل من خلال عملية تلصّص يمكن الشك في مدى  أخلاقيتها، وتم الإعلان على الملأ ما كان الكثيرون يعرفونه بالبديهة، فضائح تخصّ كل كبار الدنيا، ويا للدهشة الطفولية... لم يتزحزح أحد من مكانه... لم يتأثر أي من هؤلاء الكبار بأدنى شعور باسوداد الوجه أو حتى باسوداد الدنيا في وجهه الأغبر..

  

 


سيل الفضائح ينهال يومياً عبر الشاشات ونموذج خطايا كبار العالم صار يعطي كل المبررات لصغاره، حتى الحديث عن التوقعات التي لا فائدة منها حول موعد القيامة أصبح موضوع أفلام ومسلسلات لا همّ لها سوى الإثارة، وقد ذكر البروفيسور آرثر ويليامسون، أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا: "إن اهتمام الناس اليوم بنهاية العالم منبعه شعورهم بأنهم لم يعودوا قادرين على فهمه"، ثم أضاف: " ليس المهم أن نعرف بالتحديد موعد نهاية العالم لكن ما يعنينا في الواقع أن ما سيقتلنا على الأرجح هو فقدان الأمل". أتراه سيطلع من ملل؟ أقصد الأمل!!!!.