مش فارقة معاي...



هيام حموي. البعث
المتأمل في أحوال اللغة، وبقليل من التمعّن، سوف يصل إلى النتيجة التي لا بد منها، وهي أنها تشبه الحياة كوعاء لكائنات حية هي الكلمات... الكلمات تولد وتفنى، بعضها يتوالد تلقائياً، حسب الحاجة، عن مصطلحات سابقة، وبعضها الآخر يتم نحته انطلاقاً من مفاهيم جديدة لمسمّيات محدثة أوجدها تطوّر العصر.


والمفردات، أيضاً، تشترك مع البشر بالكثير من الصفات والتحولات، ولا نأتي بجديد إذا قلنا إن هناك كلمات تصبح، في مرحلة ما، على كل لسان، في مجتمع ما، قبل أن تذوي وتزول مع زوال ظروف انتشارها.


الإعلام اليوم هو بالطبع الناقل الأول والأسرع للموضات الكلامية، وآخر ما أتحفنا به مصطلحان لم يكونا شائعين في مجال الحقوق والقانون، إلى أن انتشرا كالنار في الهشيم من خلال تقنية "القص واللصق" المتداولة في المواقع الإخبارية الالكترونية، والمصطلحان جاءا كتعريف لتُهَم لم تكن مطروقة في أحاديثنا من قبل، التهمة الأولى هي "الازدراء"، والتهمة الثانية هي "إطالة اللسان".


يقول القاموس، المنجد على الدوام، بالنسبة لمعنى الكلمة الأولى، وعلى وجه الدقة: إن "الازدراء" هو بالتحديد "الاحتقار والاستخفاف بالشيء أو بالإنسان الآخر، أما التهمة الأخرى فليست بحاجة إلى قواميس لشرحها بالتفصيل، ولكن ربما بحاجة لمسطرة أو أي أداة قياس أخرى لتحديد "الطول الدستوري للسان المواطن" كما ورد في بعض التعليقات المريرة على الخبر في صفحات "الفيسبوك" وغيرها من مساحات التنفيس المجاني والتعبير اللامجدي عن الغضب الساطع وغير الساطع بأسماء مستعارة وبألقاب مختارة، يلزم لفك الحجاب عنها من الجهد والعناء ما لا يستحق السنتمترات القليلة الزائدة التي فاضت وتجاوزت الشفاه، على شكل صرخة مكتوبة مكتومة!!!
ولكن... ماذا عن "إطالة اللسان" من قبل بعض "سادة العالم وسيداته"؟ وكأنما التهمة لا تطولهم، وهم يوزعون شهادات حسن سلوك وصكوك شرعية على من لا يروق لهم من شعوب وقادة، مستخدمين الإساءات اللفظية بمنتهى "الازدراء" والتهكم والسخرية "الصفراء" (لا السوداء)، ويتطاولون على رموز قد تعني الكثير بالنسبة لغيرهم، لكنهم يتعاملون معها بمنتهى الإسفاف، حتى إنه يحق لبعض وسائلهم الإعلامية، وباسم حرية التعبير، اللجوء إلى الشتم والقدح والذم والرسوم الكاركاتيرية المسيئة دون أدنى مساءلة، في حين تمكنت كيانات غاصبة، نعرفها جيداً، من فرض قوانين، في بلدان كثيرة، تُعاقب من يجرؤ على معادة السامية مثلاً، بأي صيغة كانت، أو إنكار "محرقة" لا يجوز الاقتراب حتى من ذكرها إلا بمنتهى "الإجلال والإكبار" مع ضرورة ملحّة بطلب "الغفران"، بمناسبة ومن دون مناسبة، حتى إن الحالة تلك أصبحت تقريباً هي الخطوط الحمر الوحيدة في إعلامهم.

 

لو أن مرصداً عربياً تابَعَ بالدأب ذاته كل الإساءات الموجهة لثقافتنا وكياننا، مثلما يفعل أولئك المشار إليهم آنفاً، بحيث تُقام دعاوى قضائية للاقتصاص منها، في حال وجود قانون عالمي يمنع "ازدراء الشعوب والحضارات ورموزها الأبرز"، لتمكّنا من كسب تعويضات هائلة بالمليارات، قد تساهم في رفع المستوى المعيشي للكثير من الفئات المتضررة من سلب أراضينا ونهب ثرواتنا.


قد لا يعرف كثيرون أنه في تسعينيات القرن الماضي، اضطرت إحدى الإذاعات العربية، المستقرة في عاصمة أوروبية، إلى دفع مبالغ مالية كبيرة كتعويض عن نقل خطبة الجمعة من أكبر المساجد في عاصمة إسلامية أساسية، رفع خلالها خطيب المسجد صوته بالدعاء ضد فئة يعتبرها "مارقة"، فما كان من الفئة المستهدفة بالدعاء إلا أن قاضت الوسيلة الإعلامية، وكسبت الدعوى بالتهمة الرائجة، أي معاداة السامية... وأرغمتها على دفع غرامة قدرها نصف مليون من عملة ذلك الزمان!!!


قبل أن نغلق الملف، أدلى أحد المواقع الالكترونية بدلوه في مسألة تهمة "إطالة اللسان"، مشيراً إلى أن عقوبة هذه التهمة تبلغ في إسبانيا 1170 دولاراً ويبدو أنها تهمة محصورة بالأنظمة الملكية وحسب.


يقول بعض علماء النفس: إن "الازدراء" والاستهزاء والتهكم الأجوف والسخرية المجانية دليل ضعف شخصية "المزدري" واهتزاز موقفه، وإن أفضل رد هو التجاهل على مبدأ: "مش فارقة معاي"... وصفة ناجعة أثبتت فعاليتها، على ما يبدو، في الشهور الأخيرة.