مصر العاقلة ومصر الساذجة

عشنا سنوات طوالاً في سبات عميق.. استسلمنا لكل شىء وأي شىء.. سيطرت خلالها «مصر الخايبة» على مقدرات الأمور.. واعتقدنا أن «مصر الصاحية» هجرت البلاد إلى غير رجعة.. ثم كانت ثورة ٢٥ يناير المذهلة للدنيا وفي الداخل أيضا.. ودارت عجلة الأحداث بسرعة رهيبة.. الشعب المصري العظيم - لا أقول الشقيق - أظهر وجهه الحقيقي.. رافضا الظلم والفساد.. معلناً إصراره على انتزاع الحرية.. مؤكداً انقلابه على الذين عاملوه على أنه قاصر.. مجرد الزئير في اللحظات الأولى أسقط تلك الظاهرة الساذجة التي طفت على السطح.. أقصد هذا الذي أعتقد أنه رجل أعمال وظن أنه اقتصادي وتخيل أنه سياسي ثم أخذه الجنون ليذهب إلى فرض نفسه ككاتب صحفي.. تحديداً هو واحد من عناوين زمن الفساد، وإن كان اسمه «أحمد عز».. ارتفع صوت الناس متجاوزاً الزئير.. اختفى «صفوت الشريف» الذي عاث في الوطن تخريبا.. وأصبح «عمر سليمان» الذي تحترمه الأمة وتقدره نائبا لرئيس الجمهورية.. تبخر المواطن الصالح الدكتور «أحمد نظيف» مع شلته من رجال الأعمال.. وجاء الفريق «أحمد شفيق» ليرأس وزراء مصر، ليطبق منهج الانضباط والصرامة والاحترام والإنجاز.. سقط الحزب الوطني سقوطاً مدوياً.. وللمفارقة أن سقوطه جاء بعد تصنيع أكبر كذبة وجريمة في التاريخ السياسي، فالأغلبية الكسيحة تأكدنا أنها نمر من ورق لا يقوى على مقاومة نسمة هواء في الشارع!! «مصر الصاحية» استردت كل عافيتها.. استجمعت كل قواها.. أعلنت الرفض لمكاسب مؤقتة.. أكدت للعالم أن المستقبل هو مستقبلها.. وأنها قادمة لتكون الزعيمة بحجم موقعها ومكانها ومكانتها.. انتشت عندما اكتشفت أن الدنيا من أطرافها إلى أطرافها تتابع ما يحدث على أرضها، وزعماء العالم يكتمون أنفاسهم.. انتصر شبابها فى الشارع على مؤامرة سحب رجال الأمن وإطلاق «البلطجية» على المواطنين.. انحنى الدكتور «فتحي سرور» للعاصفة - ستجرفه بالتأكيد - وقال إن مجلس الشعب تملك صحة العضوية فيه سلطة القضاء.. انكشفت إمكانيات وزير الإعلام بمن هم تحت قيادته من مسؤولين صغار.. ظهر رؤساء تحرير الصحف القومية كالبلهاء في الموالد الشعبية.. تلك بعض ملامح الصورة في لوحة أسميها «مصر الصاحية» و«مصر الخايبة». حتى كان إعلان الرئيس «حسنى مبارك» أنه سيغادر المسرح السياسي، وقرر قبول تعديل الدستور قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.. وأعلن ضرورة مواجهة الفساد، مع أنه كان يعلم بتفاصيل هذا الفساد ويتحمل مسؤوليته.. تحدث عن المؤامرة دون إشارة إلى أصحابها.. يتقدم رموز تلك المؤامرة صاحب قرار شل حركة جهاز الأمن وسحب رجال الشرطة من الميدان.. شارك فيها هذا «الخواجة» القادم لنا من الغرب تحمله جائزة نوبل.. كشف الدكتور «محمد البرادعي» عن وجهه الذي أتعفف عن وصفه.. وجماعة التخريب من المسلمين - لا أقول الإخوان - وبقي شباب مصر الشريف والطاهر والنقي والمحترم، وخلفه كل شيوخها ونخبتها وعقلائها.. أما أحزاب المعارضة فقد كانت تلعب دور الدراويش فى الموالد الصوفية. ظهرت صورة جديدة فيها «مصر العاقلة» مع «مصر الساذجة».. ففى جانب نرى من فهموا أن ما انتزعه الشعب يمثل بداية للانطلاق نحو المستقبل.. وفى الجانب الآخر انفعل عدد كبير جداً من الشباب المحترم، تحيطهم نيران لأصحاب الثأر من النظام حتى ولو حرقوا الوطن.. «مصر العاقلة» استوعبت أن ما حصلت عليه لا يمثل كل ما تستحقه.. لكنه أكبر قدر من المكاسب التى يمكن الحصول عليها.. أما «مصر الساذجة» فقد وجدت نفسها أمام مشهد لم تفكر فيه من قبل، فاختارت الصراخ والعويل بلا هدف.. وبين الطرفين وقف الدراويش الذين يسمون أنفسهم أحزاب المعارضة باحثين عمن يمكن أن يأخذ بأيديهم نحو جانب من جانبى الصورة.. تأكدنا أن أحزاب المعارضة كفيفة غير قادرة على الإبصار.. كما تأكدنا - من قبل - أن الحزب الحاكم كان كسيحاً. . فلم نجد قائداً بين أحزاب المعارضة يفهم اللحظة ويقدر على التعامل معها.. يفسر ذلك الصوت العالى المقبل محمولاً على جائزة نوبل - اسمه محمد البرادعى - وبدا كأنه أسلوباً جديداً تنفذه الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على أكبر دولة فى المنطقة.. وكانت قد جربت فى العراق المحمولين جوا وفوق دبابات الاحتلال!!
«مصر العاقلة» عليها أن تبحث عن ساحة سياسية جديدة تماماً.. وليس فيها حزب الأغلبية الكسيح، ولا دراويش أحزاب المعارضة.. و«مصر العاقلة» يجب أن تكف عن الصراخ وتعود إلى العقل والتفكير.. فتلك أمة أكبر بكثير من أن نرهن حاضرها ومستقبلها عند المغامرين والذين لم تنضج تجربتهم.
نصر القفاص - المصري اليوم