مصر تدفع فرق سعر الثورة

 

الثوار أيضًا يكذبون!

 


كل الذين تصدوا بأجسامهم للرصاص في مصر وهتفوا: 'الجيش والشعب إيد واحدة' وكل من كتبوا هذا المعنى في مقالات أو تحدثوا به في برامج التوك شو الليلية كانوا يعرفون أن ما يهتفون به وما يكتبونه ليس سوى حلم بمعجزة: أن يحب العسكر الثورة ويلتحموا بها.

 


وللمصريين تجربة في تزعيم الزعيم الذي لم يولد زعيمًا، حيث جُبل البشر الطبيعيون على حب الفخر.
لم تكن بدايات سعد زغلول وزوجته صفية ابنة مصطفى فهمي باشا حليف الإنكليز تشي بالخواتيم التي انتهى إليها سعد زعيماً لثورة 1919 وصفية أماً للمصريين، تقود المظاهرات ثائرة على الانكليز وتخلع البرقع ثائرة على التقاليد العتيقة.

 


والحلم بتصنيع زعامة العسكر للخلاص من مبارك لم يبدأ أثناء عملية الوضع (من 25 كانون الثاني/يناير إلى 11 شباط/فبراير) بل منذ سنوات عندما انسد طريق الإصلاح وبدا طريق الثورة مغلقًا بمليون ونصف المليون من جنود وضباط الشرطة، مما جعل بعض الآملين بالعسكر وبعض من تربوا في حجورهم من المحررين العسكريين يطالب بتدخل الجيش، وكانوا يشيرون إليه باسم كودي 'النواة الصلبة للدولة'.

 


لكن القادة الذين عمروا بجوار رئيس بليد كل هذا الوقت ليسوا سعد زغلول ولا يبدو أنهم مثل البشر العاديين في حب الفخر.

 


كل ما كان يؤلمهم في قصة مبارك ملفان أولهما محاولته نقل إرث السلطة من عائلة مبارك الكبيرة (الجيـــش) إلى عائلته الصغيرة (علاء ثم جمال) وثاني الملفين تغول سلطة الشرطة، إلى حد تجسسها عليهم. وكان الانتهاء من الملفين بسقوط مبارك يعني انتهاء المهمة بالنسبة لهؤلاء القادة، تاركين للثوار الحسرة على مبالغتهم في تقدير قيمة الحلم وقدرته على تغيير النفوس والولاءات المستقرة.
 

في أول شهرين على تنحي مبارك، لم يكسر العسكر بخاطر المادحين، على اعتبار أن الكلام أخو الحديث، وكلاهما بلا ثمن بينما تحدد القوة ما يجري على الأرض، أو بالأحرى ما لا يجري.
ردوا المديح بالمديح، لكنهم احتفظوا لأنفسهم بمسافة من الثوار مصرين على أن دورهم كان مجرد حماية الثورة وأن حماية البلاد ستكون مهمتهم في المرحلة الانتقالية الممهدة لنقل السلطة إلى قوة مدنية.

 


لكن أية قوة مدنية تلك التي يخطط العسكر لنقل السلطة إليها؟
هم لا يقولون شيئاً، لكن الأحداث تقول. مرت الأيام والشهور من دون أن يحدث شيء على صعيد تحقيق أهداف الثورة، ليس على صعيد الترتيبات السياسية الكبيرة كالدستور والانتخابات، التي جعلوا منها لغزًا ولعبوا لتعطيلها بكل تقنيات مبارك، من تأليب المتدينين على غيرهم والمسلم على المسيحي والسلفي على الصوفي.

 


عدم الإنجاز شمل حتى تلك الأهداف شديدة البساطة التي لا تكلف شيئًا مثل مخاطبة الدول الأجنبية للكشف عن أرصدة مبارك وأسرته ورموز حكمه، وهو ما لا يحتاج إلى أكثر من دقيقتين لطباعة ورقة من سطرين تضع الدول الأخرى أمام مسؤوليتها، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل لم يردوا على الدول التي استعجلت في تصريحات علنية السلطات المصرية لكي تتقدم بهذا الطلب!

 


لم يصدروا تعديلاً لنظام المرتبات بالدولة بوضع حد أقصى وأدنى للأجور، على الرغم من أن الدراسات موجودة وإلغاء المخصصات الخيالية لكبار الموظفين من شأنه أن يمول أكثر من نصف ميزانية إصلاح الحد الأدنى، وبدلاً من ذلك بدأوا في تلاسن مع العمال والموظفين الذين يحتجون على نظام القنانة المباركي المستمر لمدة تسعة أشهر بعد الثورة!

 


والأدهى أن العسكر الذين لا يقهرون، لم يطهروا جهاز الشرطة، وكان بوسعهم إن أرادوا أن ينشئوا شرطة جديدة حيث يوجد مئات الآلاف من الحاصلين على ليسانس الحقوق بلا عمل، وكان من الممكن إلحاقهم بدورات تدريبة لمدة ستة أشهر يتخرجون بعدها ضباطاً وهو نظام معمول به في مصر بالجيش والشرطة لتلبية الاحتياجات التخصصية.

 


تركوا الشرطة على حالها، وصمتوا على أعمال البلطجة المثيرة للجنون، لم يقدموا أحداً من محرضي هذه الكائنات الفضائية للمحاكمة. ولم يخجلوا من مظهر العجز الذي يبدون عليه في مواجهة الظاهرة.
لكنه ليس عجزاً، بل هو لعب واضح، تحول مع أحداث السفارة الإسرائيلية ثم مذبحة ماسبيرو إلى حماقة تهدد وجود مصر وليس مجرد تهديد لثورة يقدر المصريون على القيام بغيرها.
 

مبدئياً لم يزل المصريون يفرقون بين القوات المسلحة بوصفها مؤسسة وطنية يمر بها جميع الذكور اللائقين للخدمة العسكرية وبين المجلس العسكري الذي يحاكم مبارك ويطبق سياساته وآليات حكمه حرفياً، بلا محاولة للإبداع، ولو باتجاه شر أكثر!

 


وقد صار واضحًا الآن أن استلقاء مبارك في القفص ليس سوى عرض مسرحي لحين موت جحا الثورة كما في الحكاية الشهيرة، وأننا أنجزنا أغرب ثورة في التاريخ، حيث يقبع نصف النظام على محفة الاتهام ويجلس نصفه الآخر على سرير الحكم.

 


صار من المؤكد أن بياض الثورة خرافة غير قابلة للتحقق، لأن هناك كمية من الدم لابد أن تسفح لاقــتلاع الشر الحصين، وما تدفعه مصر حالياً هو فرق سعر.

 

عزت القمحاوي  - القدس العربي