مصر وثورة تونس

 

فى مثل أيامنا تلك قبل أربعة وثلاثين عاما قام المصريون عن بكرة أبيهم باحتجاج عام على غلاء الأسعار، فرضخ الرئيس الراحل أنور السادات لإرادة المتظاهرين، وألغى كل القرارات التي أرهقت كاهلهم، ورضي بأنهم لم يستهدفوه هو شخصيا، ربما لأن شرعيته كانت متماسكة، فنصره على إسرائيل كان لا يزال غضا، ولم تمر سوى شهور على إطلاقه سياسة «المنابر»، التي مهدت للتعددية الحزبية بعد ربع قرن من إلغائها.

قامت المظاهرات فى جميع ربوع الدولة في يوم واحد، وكان السادات يستريح في بيته الشتوي بأسوان، فاقترح عليه بعض المقربين منه أن يذهب إلى السودان حتى تستقر الأمور، لكنه قرر أن يواجه الأزمة فطار إلى العاصمة، ورضخ لمطالب الناس، فأعاد الأسعار إلى سابق وضعها، فاحتفظ بحكمه نحو خمس سنوات إضافية، قبل اغتياله.

بينما كان المصريون يتأهبون لاستعادة ذكريات هذه الحركة الشعبية الخالدة، هب التونسيون، وأصروا على التغيير، فهرب الرئيس زين العابدين بن على، وانفتحت الأبواب على مصاريعها أمام كل العرب ليمعنوا النظر فى هذه التجربة الفريدة، باحثين عن استلهام الطريق واستخلاص العبر، قبل تتبع الأخبار التى تترى من هناك بلا هوادة. ومن بين العرب يتفرس المصريون فى «تجربة تونس» أكثر من الجميع، ربما لأن هم الذين بدأوا المناداة بتغيير أنظمة الحكم الحالية، وربما لأنهم يشعرون بأن ظروف بلادهم تشبه فى جوانب عدة ظروف تونس.

فإن كانت مصر تختلف فى وجود هامش نسبى من حرية التعبير، فإنها تتطابق مع تونس فى تلاشى هامش حرية التدبير، حيث ألحقت أحزاب المعارضة بالسلطة وهبطت وظيفتها من طرح البديل إلى مجرد ديكور، وماتت السياسة فى الشارع والجامعات والمؤسسات، وعادت البلاد بمقتضى نتائج الانتخابات الأخيرة إلى نظام الحزب الواحد، والنقابات والمجتمع المدنى يرسفان فى أغلال قوانين حديدية جائرة، والسجون مفتوحة على مصاريعها لكل من يسعى على الأرض جاهدا فى سبيل التغيير الحقيقى، والإعلام الرسمى يسبح صباح مساء باسم الحاكم. وقبل كل هذا يتشابه البلدان فى ذهاب عائد التنمية إلى جيوب القلة، بينما تعانى الكثرة من الفاقة والحرامان، وكذلك فى الاعتماد التام على «قوة الأمن» فى التحكم بمقاليد الأمور.

وأمام هذه الظروف التى تتشابه فى الغالب الأعم يتوزع استلهام المصريين لتجربة تونس المجيدة فى اتجاهات أربعة على النحو التالى:

١- تدرس السلطة فى مصر ما جرى فى تونس جيدا، لتصل إلى حيل وطرق تمنع تكرار التجربة على أرض النيل، فى مقدمتها التجنب المؤقت لأى سياسات من شأنها دفع الأسعار مرة أخرى إلى الأمام، وعدم خنق حرية التعبير، وتوسيع هامش المناورة السياسية أمام المعارضة، وتخفيف القبضة الأمنية.

٢- تدرس مؤسسات معنية بمستقبل الدولة المصرية وأمنها الوطنى الظروف التى من شأنها أن تؤدى إلى هشاشة البيئة السياسية والاجتماعية، من قبيل «غموض الوضع حول منصب الرئيس»، والإفراط فى الاعتماد على الأمن، وحرمان المعارضة من التمثيل السياسى المناسب، وقمع قوى المجتمع المدنى، وقد تضغط هذه المؤسسات فى سبيل حسم أمور لصالح «الدولة» على حساب «النظام الحاكم» فى الشهور المقبلة بعد اختلال طويل بين الكفتين لصالح الثانية، لتسد بذلك أى ذرائع لوقوع تغيير عنيف، وتفتح الطريق أمام تغيير طوعى يصنع على أكف أهل الحكم، أو يأتى من داخل النظام، عملا بالقاعدة التى تقول: بيدى لا بيد عمرو.

٣- تدرس قوى التغيير الجديدة، التى نشأت كحركات اجتماعية وسياسية واعدة وراحت تتوالد على مدار السنوات السبع الماضية، التجربة التونسية بغبطة شديدة، وتفتح نقاشا على إعادة النظر فى التكتيك الذى اتبعته، وقام على ضرورة «التغيير من أعلى».

 فتجربة تونس بدأت اجتماعية محضة، وتصاعدت لتشتبك مع السياق السياسى الطبيعى، وانتهت بخلع الحاكم، بينما بدأ المصريون تجربتهم بدعوة الحاكم إلى الرحيل أو التغيير الجذرى دون استحضار الشعب فى المشهد، وتبنوا «أجندة» لا تزال ملتبسة فى أذهان العوام حول الحريات العامة، وتأسيس دستور جديد، وإنهاء حالة الطوارئ، فانعزلوا عن الناس، ودخلوا فى مرحلة «تآكل ذاتى» أورثتهم ضعفا وتهالكا فى مواجهة السلطة. وما جرى فى تونس قد يجعل النخبة المصرية المطالبة بالتغيير تعيد وضع «الخبز» إلى جانب «الحرية» بعد تجاهل وتغافل ونسيان، أو تطلق شعار «الطريق إلى الرئيس يبدأ بالرغيف».

٤- ما جرى فى تونس يلهم الشعب المصرى نفسه، فالتغيير هناك لم تصنعه أحزاب المعارضة ولا جماعات المثقفين، إنما بدأ بسواعد البسطاء واكتمل بهم ودخل محترفو السياسة والإنتلجنسيا على خط الأحداث بعد أن اطمأنوا إلى قوة الدفع الجماهيري الرهيب. وفي مصر تراخت ثقة الناس في قدرة المعارضين على صنع البديل، لكن ها هم أهل تونس يقدمون نموذجاً ناصعاً في إمكانية أن يأتي التغيير من قاع المجتمع، ويتصاعد حتى يصل إلى رأس هرم السلطة.

  

د. عمار علي حسن - المصري اليوم