ممنوع المراقبة والتصوير.. منطقة تلاعب وتزوير

 

عندما يُنشر هذا المقال تكون قد انتهت المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب التي ربما تكون الأغرب والأعجب على مستوى العالم كله.. ولا أستطيع أن أتوقع مدى صحة ما صرح به رئيس الوزراء قبل الانتخابات بأيام «بأن مصر ستُثبت للعالم قُدرتها على إجراء انتخابات نزيهة».

بالتأكيد فإن مصر قد أثبتت للعالم في هذا اليوم أنها أجرت شيئا فريدا مُتميزا لا مثيل له في أى دولة كانت، متقدمة أو نامية أو مُتخلفة.. كانت مُقدمات هذه الانتخابات قد بدأت كما هو معروف للجميع بإحكام الحصار الإعلامي حول العملية كلها بإسكات الأجهزة الإعلامية التي كان يمكن أن تُحدث صخبا يوجه الأنظار لما يمكن أن يحدث سواء في ذلك الصحف أو البرامج التليفزيونية الجريئة، وتنوعت الإجراءات في ذلك من الإقصاء الكامل إلى درجات مختلفة من التحذير وشد الآذان والإجراءات العقابية المحدودة..

ثم تنوعت التصريحات العنترية لقيادات الحزب الذي يُخطط بغباء مفضوح للحصول على أغلبية كبيرة، تندد بالمطالبات الأمريكية والدولية لإرسال مراقبين لمتابعة العملية النزيهة التي وعد بها رئيس الجمهورية، وتبارى في ذلك مسؤولو الحزب الكبار ومن يدورون في أفلاكهم – بعضهم للأسف الشديد من الحاصلين على درجات الدكتوراه في القانون والعلوم السياسية– وكذلك كل من وجدها فرصة لإظهار نفاقه وتملقه، فضلا عن الخدم المعروفين في وسائل الإعلام الحكومية وبعض الأحزاب التافهة والانتهازية التي لا وزنا حقيقيا لها ولا وجود..

وتدريجياً وصلنا إلى المرحلة التي تسبق الانتخابات مباشرةً لنسمع فيها تصريحات لم نسمع بها في أي بلد كان حتى في سالف العصر والأوان، صادرة من رئيس اللجنة العليا للانتخابات وهي اللجنة التى يُعينها رئيس الحزب المُشارك الأقوى في الانتخابات والذي يهيئ نفسه لاحتلال غالبية مقاعده، وهي ذات اللجنة التي تختار القضاة القلائل المُبعثرين هنا وهناك لإثبات الإشراف الشكلي المطلوب، المهم أن رئيس هذه اللجنة المحترم قال في تصريحات له مع الإعلامية لميس الحديدي وبالفم المليان إنه لن توجد مراقبة من أي جهة كانت للانتخابات البرلمانية، وأن دور المجتمع المدني – يقصد القِلة الذين سُمح لهم بالحصول على تصاريح دخول اللجان من أعضاء المنظمات الحقوقية وحقوق الإنسان– سيقتصر على المتابعة فقط التي تختلف كما أفتى سيادته عن المراقبة، وشرح ذلك بأن هذا يعنى «المرور على اللجان الانتخابية والنظر لأحداث الانتخابات فقط»!

 أى أنه يريدها نزهة لطيفة بالسيارات على اللجان المختلفة، واستدرك سيادته حتى لا يفهم أحد خطأ معنى النزهة ويُحضر معه كاميرا فقال– لافض الله فوه– إن قرارات لجنته الموقرة تمنع التصوير بشكل نهائي! تصوروا مدى الشفافية.. ممنوع الاقتراب والتصوير.. هكذا تُترجم على أرض الواقع أماني الرئيس ووعود رئيس الوزراء بإجراء انتخابات نزيهة ستظهر نتائجها أمام العالم لتثبت أننا قادرون على فعل مالا يستطيع أحد فعله فى العالم!

لقد كتب الرجل المحترم أ. د. حسن نافعة يوم الجمعة الماضي في نهاية عموده مانصه: «لو كنت فى موقع الرئيس مبارك لاتخذت قراراً فورياً بإلغاء الانتخابات الحالية ولأعلنت بدء مرحلة انتقالية تستهدف إخراج مصر من مأزقها الراهن، فالاستمرار في الضلال لن يفضي إلا إلى التهلكة».. وأنا شخصيا وحتى آخر يوم قبل الانتخابات كنت أتصور أن قراراً مثل هذا من الرئيس يمكن أن يحدث.. ربما لسذاجة مني وانسياق لأمان وأحلام رغما عني، وربما لتصور عقلي أن مامن أحد يحب هذا البلد ويخشى عليه من مستقبل قاتم يمكن أن يتقبل كم الضلالات التي شهدتها هذه الانتخابات بالذات، التي تُجرى في أماكن يحيط بها الآلاف المؤلفة من ميليشيات الحزب الحاكم المُسماة بقوات الأمن المركزي، لتطبق قواعد اللجنة العليا الصارمة بأنه «ممنوع المراقبة والتصوير»!

أستطيع أن أؤكد أن السياج المُحكم حول الرئيس يمنع أن تصل إليه بصورة أمينة تلك التصرفات والتعليمات العجيبة لهذه اللجنة العرجاء.. فهي تتشدد فيما يخص مراقبة وضمانات نزاهة الانتخابات بشكل يدعو للرثاء ويجعلنا أضحوكة أمام العالم، في الوقت الذي تتساهل فيه فى العديد من المهازل والضلالات التي تقضي على الصفة الديمقراطية لهذه الانتخابات قضاءً مُبرماً.. وعلى سبيل المثال لا الحصر:

 (١) تساهلت في استغلال الوزراء لمناصبهم في دعاياتهم الانتخابية وهو ما أشرت إليه في مقالي الأسبوع الماضي، وأتحفنا هذا الأسبوع تصريح لوزير منهم هو المُتحكم في ميزانية الدولة يقول لأهل دائرته على الملأ «أنا اللي بانفذ المشاريع دي، وهابتدي من هنا» عندما سأله أهل دائرته عن التأمين الصحي والتأمينات الإجتماعية

(٢) لم تُحرك اللجنة ساكناً تجاه إستخدام دور العبادة من مساجد وكنائس فى الدعاية الإنتخابية وهو ماقام به العديد من المرشحين جهارا نهارا بما في ذلك بعض الوزراء

 (٣) تجاهلت اللجنة أحكاماً وراء أحكام من القضاء الإداري حتى التي قضى منها بإيقاف الانتخابات في محافظات بكاملها، اعتماداً على تحايل «الاستشكال» الذي أفتت اللجنة بأنه يوقف تنفيذ الأحكام لتجرى الانتخابات «غير القانونية» في موعدها،

وبعد إعلان النتائج يصبح المجلس الموقر «سيد قراره» هو الفيصل في الأمر لا القضاء (٤) لم تُعِر اللجنة اهتماما لمهزلة أو مسخرة تغيير الصفات، فهذا اليوم عامل وغدا فلاح وبعد غد فئات حسب المطلوب والظروف، وبغض النظر عن أن جميعهم بهوات وباشوات ولواءات (٥) بعد أن حددت نظرياً سقفاً مالياً لمصروفات الدعاية وتوقيتات ينبغى الالتزام بها، أدارت هذه اللجنة الشكلية ظهرها لكل ما يحدث، وأشاحت بوجهها عما يحدث من مساخر حشد البلطجية وشراء الأصوات والرشاوى الفاجرة والمُستترة، جعلت بعض المراقبين بالخارج يُقدرون حجم الإنفاق في هذه الانتخابات من ٧ إلى ٨ مليارات جنيه مصري!

كل ذلك جعل الشرفاء في هذا البلد يفعلون مثلما قرر الشاعر الكبير فاروق جويدة أن يفعل وذكره في نهاية مقاله الجمعة الماضي «قررت ألا أذهب إلى لجنة الانتخابات احتراماً لنفسي لأنني حائر بين حكومة نصفها من التجار وتجار نصفهم من الحكومة فأين المفر والجشع يُطاردنا في كل مكان مابين حكومة تخلت عن مسؤوليتها لترعى عدداً من الأشخاص وطبقة جديدة لا ترى فى الكون شيئاً غير مصالحها». السيد رئيس الجمهورية..

  

 د. طارق الغزالي حرب - المصري اليوم