من إيدن إلى هنري ليفي

أكرم عبيد - البعث
تأسست الجامعة العربية في ظل ظروف صعبة ومعقدة، اتسمت بتحرر قسم من البلدان العربية من النفوذ الاستعماري، وتنامي الشعور القومي العربي بداية الحرب العالمية الثانية، وتنامي التيار القومي الوحدوي العربي الذي أدرك بشكل مبكر أهمية الوحدة, لمواجهة التحديات الاستعمارية، وفي مقدمتها اتفاقية سايكس بيكو التي مهدت الطريق لتقسيم الوطن العربي، واصطنعت الحدود الوهمية بين أبنائه لتضمن تجسيد وعد بلفور المشؤوم على أرض الواقع، وزرع إسرائيل في فلسطين.
وكان إنشاء الجامعة العربية فكرة بريطانية أطلقها وزير الخارجية البريطاني آنذاك انطوني إيدن في خطابه الشهير بتاريخ 29 أيار عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية لكسب ود العرب في مواجهة دول المحور الذي يقوده الألمان. ومنذ إنشاء الجامعة عام 1945 مرت الأمة العربية بمخاطر جدية تتهدد الأمن القومي العربي بعد فرض مؤامرة سايكس بيكو، وإعلان قيام الكيان الصهيوني المصطنع في فلسطين المحتلة 1948 ثم العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956 وعدوان حزيران عام 1967 إلى حرب تشرين التحريرية عام 1973، ومحاولة فرض الحرب الأهلية على لبنان ومحاولة تقسيمه عام 1975 لولا تدخل سورية في الوقت المناسب لحماية وحدة لبنان وشعبه، وما تلا ذلك من توقيع اتفاقيات كامب ديفيد الخيانية عام 1977 مع العدو الصهيوني وزرع بذور الانقسام العربي الذي أسس لاتفاقيات أوسلو ووادي عربة، مروراً باجتياح لبنان عام 1982، وسقوط العاصمة العربية الثانية بيروت بعد القدس إلى حربي الخليج، واحتلال العراق عام 2003، وعدوان تموز على لبنان عام 2006، وعدوان الكانونين على قطاع غزة المحاصر نهاية عام 2008 بداية عام 2009، وتشديد الحصار على سكانه، إلى سياسة الاستيطان والتهويد والمصادرة في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، والمساس بمقدساتها الإسلامية والمسيحية، وانتهاء بتقسيم السودان بالإضافة لتعاظم مشكلة دارفور وكردفان التي تهدد بفصل أجزاء أخرى من السودان.
ورغم ذلك فقد تعرضت المشاريع والمخططات الصهيوأمريكية القديمة الجديدة، وفي مقدمتها ما يسمى النظام الشرق أوسطي المزعوم لضربات موجعة على يد المقاومة من فلسطين إلى لبنان والعراق التي حققت انتصارات مهمة تسببت بانهيارات اقتصادية ومالية على الصعيد الداخلي انعكس بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي، وتسبب في زلزال يتحرك لمواجهة الأنظمة الاحتكارية العالمية من وول ستريت في نيويورك إلى واشنطن ولندن وباريس إلى بروكسل وأثينا ومدريد، وغيرها للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، الأمر الذي دفع القوى الغربية بقيادة الإدارة الأمريكية لمحاولة استثمار التحرك الشعبي العربي، وركوب موجة ما يسمى الربيع العربي لتصدير أزمتها الداخلية للمنطقة، والبحث عن مصادر اقتصادية لتعويض خسائرها المالية.
وقد تجسد ذلك في فعل على الأرض بعد تشريع العدوان الأطلسي على ليبيا بقرار من الجامعة العربية على الرغم من أنها عضو من أعضائها، وفي مخالفة صارخة لميثاق الجامعة التي مهدت الطريق لإصدار قرار من مجلس الأمن بذريعة فرض الحظر الجوي لحماية المدنيين الذين تعرضوا للعدوان الأطلسي، وتدمير البنى التحتية والمجتمعية وقتلت حوالي مئة وعشرين ألف مواطن من الأبرياء بعد أكثر من ثلاثين ألف طلعة جوية لطائرات العدو أغارت على الجماهيرية، واستهدفت المواطنين الأبرياء لتحقيق أهداف الناتو في إسقاط النظام، واقتسام الكعكة النفطية الليبية برعاية الصهيوني الفرنسي هنري ليفي الذي كان وما زال له اليد الطولى في دعم ومساندة معظم ما يسمى قوى المعارضة السورية الخارجية المشبوهة وتنظيم مؤتمراتها من مجلس اسطنبول إلى بروكسل باريس، وغيرها لإعادة فرض السيناريو الليبي على سورية من خلال الجامعة العربية، وترافق ذلك مع حملة إعلامية دولية محرضة على سورية، وخاصة بعد إطلاق ما يسمى المبادرة العربية التي وافقت عليها سورية على الرغم من الثغرات، لكن هذه الموافقة لم ترق لهم، فتم التخطيط للخروج على المبادرة، واغتيالها ببروتوكول مصمم بمقاييس صهيوأمريكية لمصادرة القرار السيادي السوري المستقل، والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية السورية، بهدف تحويل سورية إلى عراق آخر بعد دخول لجان الجواسيس الدولية لكل مكان للعراق دون رقيب أو حسيب، لكن الرد السوري كان لهم بالمرصاد بالرفض القاطع لهذا البروتوكول على الرغم من فرض عقوبات اقتصادية على سورية وحصارها لمعاقبة الشعب السوري، وهذا ما يثبت بالدليل القاطع أن الجامعة تحولت لأداة متورطة في إعلان الحرب على سورية لتدويل الأزمة وتشريع أي عدوان عليها، وقد ترافقت قرارات الجامعة مع عقوبات اتخذتها حكومة أردوغان في تركيا المنسجمة مع الرؤية الأمريكية الغربية الإسرائيلية في استهداف سورية، وما فات هؤلاء أن سورية بلد الاكتفاء الذاتي، ويملك من الأوراق والأسواق ما يؤهله لمواجهة الحصار، وخاصة أن الشعب العربي السوري يمتلك من الخبرة والتجربة الكثير في مواجهة العقوبات والحصار الغربي.
وفي مطلق الأحوال لقد فشلت الجامعة العربية في امتحان آخر، وعجزت عن أن تكون ملاذاً للعرب، بعد تجاوزها لميثاقها لتتحول إلى أداة لتشريع العدوان الخارجي على أعضائها، ولتمرير مخططات رسمها هنري ليفي، والتي تستهدف هذه المرة سورية العضو المؤسس للجامعة التي خرجت حتى على اسمها، ولتفرض العقوبات على الشعب العربي خدمة لأعداء الأمة الذين لا يخفون حقدهم على سورية، وهذا ما يؤكد أن الجامعة ما زالت تمثل مصالح الأنظمة، وليس مصالح الشعوب العربية وإرادتها وطموحاتها، لاسيما بعد أن تم اغتيالها كإطار عربي جامع على الأقل.
15 - 12 - 2011