من غير ليه...

  

هيام حـــموي


الأقدمون، وهم "أولى بالمعروف"، كما هو معروف، كانوا يستشهدون بالحكم والأمثال الشعبية والعبارات الجاهزة، وحتى الأقوال المأثورة، المتوارثة "أبّا عن جد"... كان هذا قبل زمن الإعلام، بصحافاته المكتوبة والمسموعة والمرئية، لكن مع انضمام الإعلام إلى وسائل تناقل الموروث الشعبي، باتت هنالك عملية "تلاقح"، قوامها التمازج والتبادل، بين الحياة اليومية الواقعية، وما ُيضاف إليها،"مفلترا"، عبر أقنية الصفحة والصوت والصورة... تجد شاعرا موهوبا، يتنفس هواء الحياة، يمتصه ألما... كما يمتص النبات ثاني أكسيد الكربون، ثم يطرحه جمالا، كما تطرح النباتات الأكسجين في الأجواء...

 


كلنا نتنفسّ الهواء ذاته ، ولكن لسنا جميعا من فصيلة النبات الطارح لأكسجين الشِعر...
 يمكن لكائن شعري اسمه مرسي جميل عزيز مثلا، أن يلتقط من مفردات حياتنا اليومية عبارة شائعة إلى حد أننا لم نعد نلتفت إلى كنهها، تقول مثلا: "عارف ليه.. من غير ليه...يا حبيبي بحبك"، يأتي رحيق العبقرية الوهابية الفذة، فيمرر فوقها لمسة من بريق خلطة الجمال السحرية التي لا يعرف سرها إلا الصفوة المختارين من أبناء وادي عبقر.
 

بصرف النظر عن الذكاء الترويجي الراقي الذي كان يتميز به "موسيقار الأجيال"، صحونا ذات يوم من مطلع سنوات التسعينيات لنشهد انتشار أغنية "من غير ليه" في الأجواء،
" كانتشار النار في الهشيم" (عبارة جاهزة)

وعادت عبارة "من غير ليه" لتأخذ قيمة جديدة في حياتنا اليومية، فقد اكتسبت مرجعية فنية مشتركة، وأصبحنا، حتى دعاة الفردية بيننا، نسعد بمشاركة الآخرين، وبما يكاد يشابه التواطؤ، في تداول عبارة باتت تعني شيئا لكل منا، هذا الشيء قد يكون محددا، وقد يكون ذكرى، وقد يكون "قفشة" طريفة.

 


 بالنسبة لي مثلا، تذكرني أغنية "من غير ليه" بلقاء تمّ مع أصدقاء كانوا قادمين من الأوطان الحبيبة، أيام الاغتراب، واللقاء تمّ في أحد المقاهي الباريسية، طلبنا القهوة فأحضرها "الكرسون" الذي أخبرنا أنه مصري بعد أن سمعَنا نتحدث العربية، وصبّ قهوتنا...
 ( ولم يزدها-هيييييييييييييل!!!! وهذه بدورها عبارة مأخوذة عن الفولكلور الأردني الذي عاد وانتعش بصوت "البدوية في باريس" سميرة توفيق... ترى أين هي الآن؟؟؟)
... صبّ قهوتنا وسألني: هل تريدين القهوة باللبن / الحليب؟ أجبت دون تردد: "من غير ليه!" وضحكنا
("ضحك طفلين معا" .. عبارة جاهزة من قصيدة الأطلال للشاعر ابرهيم ناجي والملحن رياض السنباطي وأم كلثوم)...
.. وضحكنا من القلب للقفشة التي تلاعبت بالكلام في اللغتين العربية والفرنسية، بما أن لفظ كلمة حليب" بالفرنسية هو "ليه"...(lait) .

السطور السابقة تذكر بأهمية إنتمائنا إلى مرجعية ثقافية واحدة نتناقلها من جيل إلى جيل، أفقيا وعموديا، والأبسط أن أقول زمنيا ومكانيا، مع أفراد عائلتي الأقرب والأبعد، لكي نتمكن من أن نضحك معا، ونطرب معا، ونتأثر معا، ونتحمس معا، ونبكي معا، وقد نضطر للمعاناة ، وحتى الموت معا...
( الموت مع الجماعة رحمة !... عبارة شائعة مأخوذة عمن سبقونا)
 الموت معا.. ونحن نعرف ما هي مرجعية ما يحرّك المشاعر فينا...
أن لا أضطر لأن أضحك وحدي إذا ما سمعت عبارة من إحدى مسرحيات نجيب الريحاني على لسان الرائعة ماري منيب، بلهجة "عصمليّة " مبالغ فيها : إنتي بيشتغلي إيه؟ من مسرحية "إلا خمسة"، أو أبكي وحدي إذا ما سمعت صوت حليم يهتف: أحلف بسماها وبترابها...!

 مَن المسؤول عن محاولات محو ذاكرتنا الجماعية؟
وماذا عن المرجعيات الثقافية الجديدة التي باتت شريحة لا بأس بها من الأفراد تجد أنها خارجها كليا؟ شريحة لم تسمح لها الظروف، لسبب أو لآخر، أن تتآلف بعد مع تقاليد مجتمع "الفيسبوكيين"، وستقف حائرة أما عبارات مثل "ستيتوس" أو "لايكات" أو شير"؟

 

هل يحق لنا أن نطرح السؤال مجددا عن هذه "الأمية الاجتماعية" الجديدة؟
ولماذا لا نبادر إلى ردم
الفجوة قبل فوات الأمان؟
أم أن الجواب سيبقى "من غير ليه"؟