موسكو تحاول قطع الطريق على الآخرين

فاجأت روسيا الأسرة الدولية عندما طرحت في مجلس الأمن مشروع قرار يدين سورية على"استعمال القوة المفرط". يمكن القول إن منطق الكرملين واضح إلى أبعد حد ، ففي حين تجاوز عدد ضحايا الحرب خمسة آلاف قتيل بحسب تقديرات الأمم المتحدة، يصعب على روسيا أكثر وأكثر البقاء على موقفها القديم المتمثل باستخدامها مع الصين حق النقض في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع للنظام السوري.
إن النقد الواسع النطاق الذي واجهته موسكو وبكين يؤثر سلبا، بهذا الشكل أو ذاك، على سمعة هذين البلدين على صعيد السياسة الخارجية.
ومما لاشك فيه أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لا يشعر بالقلق لاعتبارات إنسانية بقدر ما يسعى للدفاع عن مصالحه في المنطقة، وكذلك روسيا، وتركيا المتاخمة لسورية والتي تصب أعمالها في مجرى السياسة الغربية.
إن لعبة الغرب ضد السلطة السورية الحالية يمكن اعتبارها جزءا لا يتجزأ من استراتيجية معادية لإيران.
وفي مقابلة معه يقول البروفيسور فكرت صديقوف " ثمة في الغرب من يعول على أن ما يسمى"الربيع العربي" سيصل إلى طهران، ولكن هؤلاء طال انتظارهم وفق كل الاحتمالات، فقرروا التدخل.
إن ميزان القوى الجيوسياسية هو على نحو يدرك معه الغرب أن إيران على علاقة وثيقة بسورية، وكلما أسرعوا في القضاء على النظام السوري ازدات سرعة سقوط النظام السياسي في إيران ، إذ أن هاتين العمليتين مترابطتان. ويمكن بكل بساطة تفسير الدعم الذي قدمته روسيا لدمشق حتى الآن.
فالكرملين يريد المحافظة على حضوره العسكري السياسي في المنطقة. وهنا نعيد إلى الأذهان أن الاتحاد السوفيتي كانت له منذ العام 1970، ولوريثته الشرعية روسيا، قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس السورية. ومن الصعوبة بمكان أن يتكهن المرء بتطورات الوضع بالنسبة للقاعدة الروسية في حال سقوط نظام الأسد.
وبناء على ما جرى في ليبيا حيث اضطرت روسيا بعد سقوط القذافي أن تنسى خططها المتعلقة بإقامة نقطة مرابطة عسكرية في طرابلس، فإن الآفاق أمام الكرملين لا تبدو زاهية كألوان قوس قزح. وفي سعيها لمساعدة النظام السوري, تتطابق مصالح روسيا مع مصالح إيران التي تعد من أهم اللاعبين في المنطقة.
وجاء في تحليل لمركز "ستارتفور" للدراسات أن الاسد إذا بقي في السلطة، فستكون إيران أحد الرابحين من ذلك. فقد باتت الجمهورية الإسلامية تلعب دوراً متزايد الأهمية في العراق، وفي السنوات الأخيرة تكثفت أكثر العلاقات بين طهران وبغداد، الأمر الذي انعكس في مواقف بغداد من المسألة السورية. وأثناء التصويت الأخير في جامعة الدول العربية وقف العراق مع لبنان، الذي يدور في فلك النفوذ الإيراني، ضد فرض عقوبات على سورية.
وكما أشار الخبير الأمريكي في "معهد سياسة الشرق الأوسط" ديفيد بوللوك، فإن تصرف العراق على هذا النحو مرتبط بالنفوذ الإيراني ارتباطاً مباشراً. ويضيف بللوك أن "لعبة العراق وراء الكواليس مهمة للغاية، والعراقيون يدركون أن الإيرانيين يراقبونهم باهتمام شديد".
أما الخبير الألماني في صندوق "العلم والسياسة" ببرلين غيدو شتاينبرغ فيرى أنه ليس من باب الصدف أبدا أن يكون المجلس الإسلامي الأعلى، وأنصار مقتدى الصدر المعادي للغرب الذي مقره في إيران، أهم قوى الضغط لانتخاب رئيس الحكومة نوري المالكي.
وليس من باب الصدف أيضا أنهم أسسوا اتحادا مع حزب "إئتلاف دولة القانون" . إن نفوذ طهران في سياسة العراق ترى بالعين المجردة. ومع ذلك فإن موسكو، التي لا ترغب بفقدان بقايا نفوذها في المنطقة، تريد اللحاق بالدينامية الجامحة للعبة الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط. وبمبادرتها المشتركة مع الصين قررت روسيا المراهنة على كسب الوقت وقطع الطريق على الآخرين، مبرهنة بذلك أنها طرف بناء معني بوقف العنف في سورية.
ولكن مشروع القرار الذي أعدته موسكو مشروع متحفظ لدرجة يستحيل معها أن يناسب الغرب. ويرى الساسة الأمريكيون والأوروبيون أن المشروع الروسي لا يشير بالقدر الكافي إلى أن النظام السوري هو المسؤول المباشر والوحيد عن الأزمة في البلاد. وفي واقع الأمر، فإن نص المشروع صيغ في عبارات يفهم منها أن المسؤولين الرئيسيين عما يجري هم "متطرفون" ينشطون في سورية، الأمر الذي يتناغم بالكامل مع موقف دمشق الرسمي، لا مع موقف الغرب بحال من الأحوال. وهذا ما تطرقت إليه وزيرة الخارجية الأمريكية في واشنطن بتاريخ 16 كانون الأول الماضي.
غير أن المسؤولين في روسيا واثقون من أن السيدة كلينتون عندما تتكلم عن "المظاهرات السلمية" ، إنما تحور الوقائع بعض الشيء، فعلى خلفية قتل الجنود ورجال الشرطة السوريين على أيدي الفارين من الجيش في مدينة درعا، لا مجال للحديث عن سلمية المظاهرات في سورية.
وثمة استنتاج يطفو على السطح، وهو أن بعض توقعات الخبراء قد تحققت، وذلك لجهة اشتداد ظاهرة الفرار من الجيش السوري وإرغام هذا الجيش على إطلاق النار على المواطنين. ولعل هذا أسوأ سيناريو بالنسبة للأسد.