نداء من كاهن عربي إلى كنائس الشرق والغرب....الأب الياس زحلاوي


 

 


الأب الياس زحلاوي 
 
إني كاهن عربي من سورية لم أكفّ، منذ عقود، عن إمعان الفكر في عالم يهيمن عليه غرب أسكرته سلطته غير المحدودة، الجشعة، والظالمة والعمياء وإني، إذ أخشى الأسوأ، إزاء انفلاته المتصاعد ضد العالم العربي والإسلامي، رأيت من واجبي أن أوجّه نداءً مزدوجاً وموحّداً إلى كنائس الشرق والغرب، في آنٍ واحد.

في الحقيقة، إن كنيسة المسيح، أينما كانت، يجب عليها أن تكون «عمود الحق»، كما أحسن وصفها القديس بولس. ‏

والحال أن الكنيسة الغربية، في كلّيتها، هي المعنيّة الأولى، لأن هذا الغرب، الذي يُفترض فيها أن ترعاه وتحذّره، هو الذي يجيز لنفسه أن يمارس سياسة هيمنة، تقوم على الظلم والإرهاب، وتنتهك بانتظام جميع قيم الحياة والسلام، خصوصاً على صعيد العالم العربي والإسلامي. ‏

إلا أن كنيسة الغرب، منذ رحيل البابا يوحنا بولس الثاني، قد لاذت بالصمت! ‏

وإن هي تكلمت، فكلامها لا يعني شيئاً، إزاء المشاكل البالغة الخطورة، والكوارث الإنسانية المتفاقمة في الاتساع، التي تسبّبها هذه السياسة بالذات وإنّه ليؤلمني، أنا الكاهن الكاثوليكي، أن أجرؤ وأسجّل مثل هذه الملاحظة، ولكن المرء لا يحتاج للتثبّت من هذا الأمر، إلاّ إلى مطالعة متأنّية لصحيفة الفاتيكان الرسمية، «الرقيب الروماني» .(Osservatore Romano). ‏

ثمة أدلة على هذه السياسة اللاإنسانية، ما يجري في فلسطين من معاناة استطالت أكثر من سبعين عاماً، وهي ليست سوى محرقة غير مسبوقة، وما يجري في أفغانستان، وفي باكستان، وفي الصومال، وفي السودان، ومنذ فترة قريبة في ليبيا، إذ هبّت لنجدتها جميع قطعان الغرب، باندفاعٍ ودهاءٍ لا حدود لهما، مدّعيةً حماية الحقوق الإنسانية للمدنيّين فيها! وآخر هذه الأدلة، خطاب الرئيس أوباما التعيس. ‏

في هذه الأثناء، كانت كنائس الشرق، ما كان منها في بلدانها الأصلية أو في بلدان الاغتراب، قد قدّمت البرهان المؤسف خلال السينودس من أجل الشرق، على فشلها في مواجهة المشاكل الرئيسة، علماً أن هذه المشاكل تمس حياتها وحقوقها، بل وجودها بالذات، في الوقت الذي تمس فيه أيضاً الحياة والحقوق، بل الوجود من بلدانها الأصلية ‏

كيف لنا أن نفسر ونبرّر هذا الصمت، المزدوج والآثم، الذي تمارسه جميع الكنائس الكاثوليكية في العالم؟ ‏

تحاشياً للخوض في تفسيرات لا حصر لها، أدعو لمطالعة كتاب الصحفي الإيطالي، زلويجي أكاتولليس، وهو بعنوان «عندما يطلب البابا الغفران»، الصادر عام 1997، بموافقة البابا يوحنا بولس الثاني. ‏

إن هذا الكتاب، بكلّيته، اعتراف شجاع، مؤلم ومرهق في آن واحد، بصمت الكنيسة الغربية، بل بتواطئها، وبمسؤوليتها إزاء مواقف تاريخية، بل إزاء أخطاء مورست طوال قرون ‏
حسبي أن أذكر منها: اللاسامية، محاكم التفتيش، احتلال القارة الأميركية، الاستعمار الغربي، التواطؤ مع السلطات الزمنية، التجارة بالزنوج. ‏

لقد اقتضى الأمر ظهور البابا الشجاع، يوحنا بولس الثاني، كي يتسنّى للكنيسة الغربية أن تتحرر قليلاً من ثقل هذا الصمت المزمن والمؤلم، وتطلق اعترافاً علنياً ومتكرراً، بهذه «الخطيئة»، التي طالما طلب البابا يوحنا بولس الثاني، الغفران بسببها، من الله والبشر! ‏

وإلى ذلك، يبدو أن عادة الصمت التي مارستها الكنيسة الغربية طوال قرون، قد استعادت تحكّمها بالكنيسة، منذ رحيل البابا يوحنا بولس الثاني، حيال سياسة غربية تدفع العالم كله، على نحو واضح، نحو نهاية مأساوية وحتمية. ‏

قد يبدو هذا الاستنتاج للكثيرين، هنا وهناك، على جانب من المبالغة، بل من الخطأ. ولكنه الاستنتاج عينه الذي كان انتهى إليه، منذ سنوات كثيرة، خطيب الفاتيكان بالذات، الأب زرانييرو كانتالاميسّاس، خلال الرياضات الروحية التي كان يلقيها في احتفال الجمعة العظيمة، ما بين عام 1980 وعام 1996. وقد جمعت في كتاب صدر في باريس عام 1996، تحت عنوان «إننا نبشر بمسيح مصلوب».

وحسبي أن أورد، من هذا الكتاب القيّم، ما جاء فيه، بالحرف الواحد، في الصفحتين (39¬40): ‏
«إن سفر الرؤيا يحتوي سبع رسائل موجهة إلى كنائس آسيا الصغرى (الفصل 2 و3). وإن كلاًّ منها تنتهي بهذا الإنذار: زمن له أذنان للسماع، فليسمع ما يقول الروح للكنائس!». ومَن يتأن في قراءة الرسائل، يكتشف أن كلاًّ منها تحتوي في صلبها، كلمة لها الأولوية المطلقة، وهي تعني: «التوبة! التوبة!». وإن كل مَن له أذنان لسماع ما يقول الروح للكنائس اليوم، يعرف أنه يقول الكلمة إياها: التوبة! ‏

في 9/10/1963، في منطقة «الفريول» (FRIOULES) الفرنسية، وفي الليلة التي سبقت انهيار سد «فاجون» (VAJONT)، الذي تسبب في المأساة المروعة المعروفة، سمع الناس طقطقات وردت من هذه المنطقة، ولكن أحداً لم يعرها بالاً. ‏

والحال، أن شيئاً مماثلاً يحدث فينا، إن أتقنّا الإصغاء إنّ هذا العالم الذي بنيناه لأنفسنا، وقد جبلناه بالظلم والتمرد اللامسؤول على شرائع الله، آخذ في التصدع! ورائحة الحريق تملأ الأجواء، لو كان يوحنا المعمدان على قيد الحياة، لكان صرخ: «ها إن الفأس على أصل الشجرة! توبوا!» (متى 3/10) ‏ هذا التهديد الذي يحوم في الفضاء، فإن العالم غير المؤمن نفسه، يشعر به على نحو غامض، ولكنه يتصرف حياله بطريقة مختلفة: هو يعمد إلى بناء ملاجئ مضادة للذرة، وهناك من الدول من تنفق في سبيل هذا المشروع، قسماً مهماً من ميزانيتها، وكأني بهم، بهذه الطريقة، يقدّمون حلاً للمشكلة! ‏

نحن أيضاً، نحن المسيحيّين، نبحث عن ملجأ مضاد للذرة، ولكن ملجأنا المضاد للذرة، هو بالتحديد هذا الذي تحدثنا عنه: أن نتوب عن خطايانا!» (انتهى). ‏

إلا أنه من الواضح أن هذه التوبة الضرورية، قد ألقت بها الكنيسة الغربية في عالم النسيان، استبدلتها بنغمة مؤسفة لا تني تردّدها، هنا وهناك، بشأن ما تسميه الخطر الذي يهدد مسيحيي العالم العربي، الذين تحدق بهم الأصولية الإسلامية. ‏

ولكن ألا يجدر بنا أن نلتزم بمزيد من النزاهة لنتساءل، مرةً وإلى الأبد، ما إذا كانت هذه الأصولية الإسلامية، في نتيجة المطاف، رد فعل يائس في محاولة الدفاع عن الذات، حيال واقعتين ضخمتين، أولاهما هي هذه الإرادة المفترسة لغرب يريد أن يهيمن على العالم، ولا سيما على العالم العربي والإسلامي، وثانيتها هي هذه الإبادة المخططة والمنتظمة للشعب الفلسطيني، تحت سمع العالم كله وبصره، منذ أكثر من سبعين عاماً، ينفذها طفل الغرب المدلل، عنيت به إسرائيل، إسرائيل التي غذّاها الغرب حتى التخمة، وغفر لها مسبقاً كل خطاياها؟ ‏

ودعوني أذكّر أخيراً بأن العديد من هذه الحركات الأصولية، بدءاً من بن لادن، هي من صنع الغرب نفسه!. ‏

والحال أن كنيسة الغرب تصر بدورها على التعامي عن المشاكل الحقيقية، بكل تداعياتها، الراهنة والآتية، الخطيرة والعامة، بسبب من عقدة ذنبها المتأصلة والناجمة عن لاساميتها المزمنة، على ما في هذه اللاسامية من تعارض مطلق مع الإنجيل، واستحالة العثور على تفسيرٍ مرضٍ لها. ‏

أفلا يعني ذلك أنه قد آن الأوان للكنائس الشرقية لتقوم بدورها الذي لا بديل منه، في بلدانها الأصلية وفي بلدان الاغتراب، فتدعو دون كلل جميع الكنائس الغربية للتنديد بقادة الغرب، ولإرغامهم على التحديق بصدق في المشاكل التي تتحكّم بجميع المجتمعات العربية الإسلامية، وكذلك بمستقبل البشرية؟ وعندها سيأتي خلاص العالم من الشرق. ‏

إلا أن ذلك يمكنه أن يشكل، للوهلة الأولى، عقبة كأداء أو أمنية غير واقعية. ‏

هنا دعوني أذكركم بحادثة على جانب عظيم من الواقعية والرمزية، ذلك بأن صوتاً واحداً، هو صوت مطران الكنيسة الملكية الكاثوليكية في الولايات المتحدة، الدمشقي المرحوم يوسف طويل، كان كافياً لدفع مؤتمر جميع الكنائس الكاثوليكية في هذا البلد، للتصويت بالإجماع، يوم 13/11/1973، أي بعيد حرب تشرين بشهر واحد، على تصريح رسمي ¬ كان الأول وللأسف، الأخير من نوعه! ¬ يتبنّى حلاً للصراع العربي¬ الإسرائيلي، في إنشاء دولة فلسطينية، مستقلة وقابلة للحياة، بجوار دولة إسرائيل! ‏

فماذا تراها تفعل جميع الكنائس الشرقية، سواء في بلدانها الأصلية أو في بلدان الاغتراب، لو وحدت جميع أصواتها للمطالبة، مراراً وتكراراً، بالعدل والسلام للجميع؟ ‏

ألم يئن الأوان لوضع حد لهذه السياسة الإسرائيلية المتغطرسة، التي تتمتّع بدعم الغرب كله، دعماً مطلقاً وأعمى، والتي انتهت بها الحال إلى تحويل الشعب الإسرائيلي برمته إلى مجموعة من اللصوص والقتلة، ولو ساء ذلك الحكم جميع حكومات الغرب وكنائسه! ‏

وإن كان قد اتضح أن قادة الغرب ليسوا سوى عبيد لدى «اللوبي الإسرائيلي»، فإنه يجب علينا الاعتراف بأن شعوب الغرب قادرة على معرفة الحقيقة، كما هي على أرض الواقع في فلسطين، منذ نشوء إسرائيل، على الرغم من مطارق إعلام مدروس بإتقان عجيب، والدليل القاطع على ذلك هو الحشود الرائعة من المتضامنين، القادمين من أوروبا وأميركا على السواء، والحاضرين أبداً في فلسطين، وهل من لا يعرف تلك الصبية النبيلة، راشيل كوري، الأميركية، التي سحقتها جرافة إسرائيلية، إذ وقفت في طريقها لتحول دون تدميرها أحد البيوت في غزة؟ ‏

هل يجوز لنا أيضاً أن ننسى الأصوات المرموقة والشجاعة، التي لا تني تندّد بالواقع المسمّى إسرائيل، وتطالب بالعدالة والسلام؟ من هذه الأصوات، أذكر في إسرائيل، العالم أشعياهو لايبوفيتز، وإسرائيل شاحاك، وتانيا راينهارت وسوزان ناتان، وأذكر من فرنسا عمانوئيل ليفين اليهودي، وروجيه غارودي والأب ميشيل لولون والأب بيير، ومن سويسرا جان زيغلر، ومن الولايات المتحدة، ناعوم تشومسكي، وبول فيندلي وروبير دول، ودافيد ديوك، وستيفن والت وجون ميرشايمر، وفرانكلين لامب. ‏

أيتها الكنيسة الكاثوليكية الغالية، لن تخلّصي العالم بهذه الطريقة! وبهذه الطريقة نفسها، أنت لا تمثلين ذاك الذي جسّد وحده، ودونما أيّ خلل، الحب المطلق! ‏

أيتها الكنيسة الكاثوليكية، يا أمي، ألم يحن الوقت كي تغيري مسارك؟ إن الحشود الهائلة من الجياع والمظلومين، ينتظرونك على الشاطئ الآخر، كما كانوا، في القديم، ينتظرون يسوع في فلسطين ‏