نذير نبعة ... زخرفة الحلم ... وأسطرة الواقع

تستعيد الكتابة عن فن نذير نبعة ذاكرة حية من التجارب التشكيلية السورية الحديثة،التي اثارت الانتباه والنقاش، طوال اكثر من اربعين عاما، حيال خصائص القيم التراثية الشعبية المرتبطة بجذور البيئة المحلية والعربية، والتي استعادها في لوحاته بدقة واقعية تفصيلية،على الطريقة الشرقية الارابسكية، فاتحا ينابيع الاشارات الزخرفية الدقيقة عبر تداعيات المرأة والحنين الشاعري المنبثق من رؤى مسرح احلام الف ليلة وليلة. واذا تجاوزنا بعض المراحل التي مرت بها تجربته، والتي اظهر من خلالها بعض التعاطف مع تيارات الحداثة التشكيلية الاوروبية، يمكن القول انه كان في اكثر الاحيان يعمل على تقديم اللوحة الفنية الشرقية البديلة والخارجة عن اطار الصياغة التي اطلقتها صالونات العواصم الفنية الكبرى في القرن العشرين.ففي لوحاته التي نتحدث عنها هنا نلمس خلاصة مهارته التصويرية ودقته التفصيلية ومنهجه العقلاني المعبّر عن التصميم المتماسك الذي يتولد من خلال تدرجات الظل والنور والرموز المختلفة والمكثفة التي تربط بين تكاوين الاشكال المختلفة.
هكذا جسد في لوحاته اجواء الحلم الخيالي الشرقي،وفتح امام عين المشاهد نوافذ على حكايات اسطورية مستشفة من دفق حياة الزمن الغابر.وهي تشكل مدخلا لدراسة موضة ازياء وجواهر وعادات وعفوية حياة ايام زمان. ففي لوحاته القديمة يخاطب نذير نبعة المرأة والاجواء الشرقية الحميمية .والمرأة لديه تأخذ شكل الاسطورة تطل لتعبّر عن مشاعر الحنين الى رؤى الحلم ونشوة حياة الزمن الغابر،كل ذلك في محاولة لكسر الطوق الخانق في عالم اليوم اللاانساني،والعودة الى ذكريات الاشكال الموزعة في زوايا البيوت الشرقية القديمة.
مهارة تصويرية فالتقنية التي ابرزها في تلك اللوحات تكمن في خاصية كونه فنانا واقعيا يعرف كيف يتعامل مع الاتزانات والنسب ويطوّع العلاقة القائمة بين معطيات الواقع ورؤى الخيال الاسطوري. واللمسة اللونية هنا تبدو بعيدة كل البعد عن مخاوف الانزلاق والوقوع في مؤشرات المغامرة المسايرة للطروحات التشكيلية الحديثة،التي تنطلق من طريقة تبسيط واختصار واختزال معطيات الصورة او تتجاوز ملامح الاشكال والرموز الواقعية الى صياغة تجريدية لونية بحتة وخالصة. من هذا المنطلق الجمالي نستطيع ان نرى في لوحاته السابقة التفاصيل مجتمعة،ذاهبا الى توليف الاشكال الواقعية بطريقة خيالية واسطورية ورمزية احيانا،رغم انه يحافظ في احيان اخرى،على الجو الواقعي للشكل أو المشهد المرسوم.
مناخية خاصة وهو في جميع تلك اللوحات قد وصل الى جماليات ومناخات خاصة به،لا تطلق الاصل ولا تقلده،في سياق استعادته لتفاصيل ازياء وجواهر وجماليات واجواء ناس ايام زمان.حيث اكتشف عن طريق النماذج التراثية المحلية والشرقية(الأزياء التقليدية،الصدفيات،ا لزجاجيات والاواني المزخرفة،الجواهر والحلي....) ان اللوحة هي فسحة يمكن من خلالها اعادة الاعتبار الى معطيات التراث الفولكلوري والشعبي،الذي يتعرض للزوال والاندثار.
والرسم الواقعي الذي جسده يحتاج -كما هو معروف الى المزيد من الدراية المهنية والخبرة التقنية في خطوات الوصول الى ايقاعات التناسب والاتقان في صياغة الاشكال والتفاصيل الصغيرة والدقيقة وبمزيد من العناية والجلد والتأني والصبر الطويل. عوالم تراثية صافية ولقد اخبرني نذير نبعة في جلسة حوار معه: ان انجاز اللوحة التي نتحدث عنها يستغرق معه شهورا واضاف : انه لا يستطيع ان ينجز في العام اكثر من اربع لوحات،كونه في سهرات العمل الطويلة يرسم بدقة ادائية لافتة،تستعيد العوالم التراثية الصافية،وتكرسه كواحد من الفنانين العرب القلائل الباحثين عن يقظة تراثية حاملة تداعيات عراقة النكهة المحلية،التي كادت تغيب وسط هذا الكم الهائل من الاعمال المجانية والاستعراضية،التي تعرض عندنا بحجة التجديد والمعاصرة والتي تزيد من حدة المراوحة والاستلاب التشكيلي الحامل مظهر عبثية التجريد،البعيد كل البعد عن مميزات وخصوصيات التراث العربي.كأنه اراد من خلال تلك اللوحات ان يقول لنا ان محاولات استعادة عناصر التراث تمر في هذه المرحلة في ازمة حقيقية،هي ازمة تدهور وفقدان بريق ومراوحة وتكرار ممل ورتيب. فمع ازدياد تحسيسه بأزمة التعبير في الفن العبثي، كان يزداد تعلقا بالهاجس التشكيلي التراثي،حيث لا اسئلة معقدة،ولاطروحات تنظيرية،ولا خوف من صياغة فنية تحمل المزيد من الصدق الادائي العميق والمعبّر عن اجواء البيئة بهدف ايجاد الخصائص الاصيلة لمنطلقات اللوحة العربية المعاصرة. فقد كان في سنوات العمل الطويلة،من اكثر المتحملين عناء استعادة العناصر التزيينية الزخرفية،ومن اكثر المتواصلين مع خطها النقي والمتجدد وبمزيد من التفاني والدقة في تجسيد عناصر المرأة بنظرتها الثاقبة والتي برزت في بعض لوحاته وهي محاطة بنباتات الزينة والفواكه والازهار مع تركيزه في احيان كثيرة على ابراز التواءات وثنيات الثوب عبر تقنية خاصة تصل الى تغطية مساحات من اللوحة،تضفي الحيوية والحركة والاجواء الخاصة على عمله الفني. هكذا ظهرت براعته التصويرية في صياغة الوجوه والاجساد النسائية والاشكال التراثية والتي ابرز من خلالها ايقاعات التوازن والاناقة الادائية المفرطة في التأليف والتلوين معا. هاجس التخطي في معرضه الاخير الذي اقامة نذير نبعة في غاليري اتاسي خلال العام 3002 تحت عنوان «التجليات» قدم حوارا بصريا مغايرا اعتبره البعض مناقضا لاعماله السابقة،ولاسيما انه ابتعد في صياغاته الجديدة عن الاجواء الجمالية التزيينية التي اشتهر بها. كما ابتعد كل البعد عن النعومة والتأنق الخارجي الذي جعله ولسنوات طويلة يغرد خارج سرب التيارات التشكيلية المتطرفة في حداثتها والمفتوحة على التقنيات التلوينية الاوروبية. والواقع ان تجربته قد عرفت في تحولاتها ومنذ منتصف الستينات هذا التفاوت والتنقل من اطار ورغبات رسم المشهد بتفاصيله الواقعية وخطواته التشريحية الى محاولات ابراز طبقات اللون الكثيفة،والتي تصل الى حدود استخدام العجائن الخشنة الاكثر جرأة وعفوية وحرية في صياغة عناصر الاشكال الانسانية. وهذا يعني ان مسار اظهار التضاد الحاد لم يكن جديدا ،لأنه في خطوات معارضه السابقة،سبق وبحث في بعض لوحاته عن اشارات عفوية،حتى اننا نستطيع ان نكتشف تعددية لاكثر من ثلاثة اتجاهات واضحة ظهرت في تنويعات اعماله التي قدمها بعد مرحلة الدراسة الاكاديمية في القاهرة وباريس. ومن خلال تأملي الطويل لصور بعض لوحاته التي عرضها في دمشق في العام 5691،وجدت انه استخدم لمسات اكثر من اسلوب في معرض واحد،وحتى اللوحة الواحدة تفاوتت ما بين ابراز المساحات المسطحة للون في مساحة من اللوحة،والتركيز لاظهار الدقة والنمنمة التفصيلية الواقعية في اماكن اخرى. هذا التصادم اللوني والتقني اعتمده اذا في مراحل سابقة بقصد ابراز حدة احاسيسه وتقلباتها ما بين الهدوء والانفعال.فهو في معالجاته للون والعناصر يتنقل بين السكون والحركة،بين الواقعية والتجريد،بين التجسيد والتلوين،كل ذلك بهدف تجاوز النمط التصويري الواحد والوصول الى الطروحات الجمالية الاكثر شمولية والتي تزيد من حالات ارتباطه بالعصر الراهن الجامع لكل الحالات والتناقضات. فأعمال معرضه الاخير في غاليري اتاسي التي لاقت سجالا حادا في اوساط الفنانين والمهتمين،لا تشكل انغلاقا وتراجعا كما يفسر البعض،بقدر ما تشكل حوارا مفتوحا على الحرية التعبيرية المستمدة والمتفاعلة مع معطيات الحياة الذاتية المعاشة .فالفن لا يعني الجمود واجترار مفردات وشعارات جاهزة،بقدر ما يعني ترويض ايقاعات القلق الفني في خطوات الوصول الى تحوّل نوعي يريد الفنان الافصاح عنه في حركة الرموز والدلالات والإشارات اللونية. حوارية المرئي والافتراضي تجتمع ثقافتان في تجربة نذير نبعة، ثقافة الصورة المستعادة من ذاكرة التراث الشعبي، وثقافة الإشارات اللونية التجريدية القادمة من الإحساس التذكيري المنبثق من مشاهدات الفنان لجروف صخرية شاهقة اكتشفها أثناء تأملاته -على حد قوله- لبعض المناطق الجبلية المحيطة بمدينة اللاذقية. وسطوح لوحاته الأخيرة رغم تجريديتها، فهي تذكرنا بجدران المغاور والحضارات القديمة، وتثبت من جديد الرموز التاريخية والاسطورية، وتحول اللوحة بالتالي الى سجل لذكريات طفولته ونشأته في بيت طيني في منطقة المزة في دمشق. إنها مفردات وإشارات لونية من ثقافة الصورة الحية الباقية في الذاكرة عن المدينة القديمة. فالسطح الذي يقدمه في لوحته الجديدة يضاعف الايهام بتحول اللوحة الى نسيج لذكريات تحمل خصائص الميراث المعماري المحلي. غير أن الامعان أكثر في التأمل والملاحظة يفتح النص التحليلي على الكثير من التأويل والاجتهاد اللامحدود. فاللوحة التجريدية أو القريبة من التجريد والتي برزت في معرضه الأخير تعبر أيضاً عن الزهد والروحانية والتقشف، وهذا الانفلات نحو اللانهائية واللامحدود، أي نحو المجهول، يدفع العين نحو تحسس موسيقا اللون، النابع من القلب هذه المرة، لا من العقل كتعبير مطلق يتولد من خلال الحركة التلقائية والعفوية اللونية المتدفقة. فأبرز ما في لوحاته الجديدة اعتماده الكلي على عجينة لونية سميكة. بالإضافة الى معالجة هذه المادة بمشحف الرسم أحياناً، بضربات شاقولية وافقية، وعلى الرغم من كل هذه العفوية وهذا الارتجال، فأنا لا استغرب ما وصلت إليها تجربته، لأن الفن هو بحث دائم، والفنان يجب أن يكون حراً في عمله حتى النهاية، ولا يعني ذلك أن يتخلى عن دراسة المساحات والمادة والتقنيات التي يشتغل عليها في خطوات انتقاله من صياغة فنية الى اخرى. فهو في تحولاته بين ما هو واقعي وخيالي واسطوري وما يمكن ادراجه في اطار الصياغة التجريدية المنبثقة من الواقع، يفسر احساسه الصادق تجاه الأثر التاريخي والثقافي. فحين يكون في حالة هدوء يعود الى صياغة النمنمة التفصيلية الواقعية ويكون عكس ذلك تماماً في لوحات أخرى والمهم في الحالتين كيفية النقل الفني للحالة الداخلية التي يعيشها أثناء انجاز اللوحة وهذه الحرية من وجهة نظرنا هي من حق الفنان، إذا كان صادقاً مع نفسه ومع عمله وهي التي تحقق السعادة في التعامل مع المادة اللونية وتقود الفنان الى الإمساك بمناخات تعبيرية ولونية خاصة (وهذه الحرية في التعامل مع الأشكال والمواد والألوان هي التي جعلت فناناً اسطورياً مثل بيكاسو يتنقل من مرحلة الى أخرى ومن أسلوب الى أسلوب). نحتار كيف نصنف نذير نبعة، لأنه في تحولاته الاسلوبية والتقنية، من أقصى درجات الدقة، الى أقصى حالات العفوية، يلغي كل تصنيف، فهو يعجب على سبيل المثال برؤية لوحات فناني عصر النهضة ورسوم الواقعيين، بقدر ما يدهش في اكتشافه لحيوية وجنون اللون في التشكيل الحديث كأنه رسام أجواء القرون الماضية، وبآن واحد رسام الحداثة وما بعد الحداثة. فهو التجاوز بين الواقعية واللاواقعية، وهو التنقل بين الماضي والحاضر والتحول من ترميز محض الى تشكيل محض، فالتباينات الشديدة واضحة كل الوضوح بين لوحة الأمس ولوحة اليوم، حتى أنه في هذه المرحلة لا يرسم لوحة وإنما يقوم بتشكيل سطح تضاريس مشغول بحس مباشر وبمزاجية تنتهي ولا تنتهي، وتقنع ولا تقنع، بل تجعل للمغامرة وللقلق الفني مكاناً بارزاً في مساحة اللوحة. نذير نبعة استاذ ومعلم في صياغة تفاصيل الأشكال الواقعية، حيث يمتلك القدرة على تجسيد الوجوه والأشكال الإنسانية والعناصر المختلفة بقدرة ادائية فذة..إلا أن هذا الشعور بقدرته على تجسيد الشكل والحركة والتفاصيل سرعان ما يتغير وينقلب رأساً على عقب، عندما نستشف في لوحاته الجديدة جرأة مدهشة تقطف حرارة اليد ونبض العاطفة وحيوية الإنفعال، لدرجة ان لوحاته الاحدث تلتقي بكثافتها اللونية مع تقنية الرولييف الجداري التي تقربه أكثر من الطروحات التشكيلية الموجودة في ثقافة العصر. هكذا تتلاحق تداعيات (التجليات) من الواقع والذاكرة، من اليومي والمتخيل، من الماضي والحاضر، ورغم اتجاه اللوحة الواضح نحو التجريد، فهي توحي بأشكال الصخور والطبيعة والجدران القديمة، بحيث تتحول العجينة الى فسحة للعب الحر، فلا يبقى الفنان في حدود الاستفادة من معطيات بحوثه السابقة، إنما يتخطى ذلك، مع أنه يعمل في النهاية على تقريب المناخات اللونية من مناخات لوحاته السابقة بالقدر الممكن، وهنا تكمن المعادلة الصعبة.
ولد نذير نبعة في دمشق عام 1938
درس الفن في باريس بالاكاديمية العليا للفنون الجميلة للفنون في فرنسا وبدأ بإقامة معارض فنية منذ نهاية الخمسينات من القرن العشرين في سوريا والدول العربية وفي العديد من دول العالم.
معارض نذير نبعة
معرض صالة الفن الحديث - دمشق 1965
معرض صالة الصيوان - دمشق 1968
معرض صالة غاليري واحد - بيروت 1969
معرض صالة المعارض في المركز العربي - دمشق 1979
معرض في متحف الشارقة / الإمارات 1996
معرض غاليري بوزار - دبي 1997
معرض المجمع الثقافي الإماراتي - أبوظبي 1998
معرض مهرجان القرين الثقافي - الكويت 1998
معرض في متحف الفن الحديث بالكويت 2001
المعارض المشتركة
معارض فنية عالمية مشتركة مع فنانين سوريين واجانب في في مدن عالمية (باريس - مدريد - بولونيا - سان باولو - موسكو - لايبزك - طوكيو - براتسلافا).
معارض فنية عربية مشركة في مدن عربية (دمشق - حلب - بيروت - القاهرة - الكويت - الإسكندرية
الجوائز
1967- معرض غرافن آ.
1968- بينالي الإسكندرية.
جائزة المدرسة العليا في باريس.