نطرد الاحتلال ونتفرّغ للاقتتال

كان يفترض أن يكون يوم أمس عرساً وطنياً في العراق. فجلاء آخر قوات الاحتلال يثير البهجة. كل احتلال بغيض. وبغض النظر عن الظروف التي أدت إليه . والأسباب التي تذرع بها لإطلاق احتلاله. وحتى ولو استهل الاحتلال عهده باقتلاع طاغية عجز معارضوه عن اقتلاعه.
كان مشهد الدبابة الأميركية وهي تقتلع تمثال صدام حسين اكبر من قدرة العراق على الاحتمال. واكبر من قدرة المنطقة أيضاً. وكان مشهد الدبابات الأميركية في الناصرية أو الفلوجة مستفزاً للعراقيين وللدول المجاورة أيضاً.
شهدنا البارحة نهاية مغامرة دامت تسع سنوات. مغامرة اتصفت منذ البداية بالرعونة والغطرسة والجهل الكامل بالمشاعر العميقة للشعب العراقي. أقول ذلك على رغم معرفتي بأن كثيرين ممن غسلوا أيديهم من الاحتلال ساهموا في استجلابه. وأن آخرين اغتنموا فرصة حصوله للانقضاض على المنجم بوظائفه ومواقعه وثرواته. وان الفريق الذي اعتبر نفسه منتصراً لم ينجح في ضبط شراهته. وان الفريق الذي اعتبر نفسه خاسراً لم ينجح في خفض خسائره والخروج من الحنين إلى الماضي.
ارتكب الأميركيون على ارض العراق أخطاء وخطايا وجرائم. ذوبوا المؤسسات الأمنية وكأنهم يريدون إعادة بناء «عراقهم» من الصفر على غرار ما فعلوا في ألمانيا واليابان. لم يتنبهوا إلى الفوارق الاجتماعية والثقافية والدينية وان الحدث يدور في عالم آخر. وان دول الجوار لن تقبل عراقاً أميركياً. ولن تقبل عراقاً ديموقراطياً. وان بعضها سيدافع عن نفسه على ارض العراق ولو استلزم الأمر الخوض في دماء العراقيين. وكان السلوك الأميركي بشعاً. صرخنا منددين ببشاعات معتقل أبو غريب. وكنا على حق على رغم شعورنا أن ذلك المعتقل يمكن أن يعتبر فندقاً من خمس نجوم إذا قورن ببعض السجون العربية.
إرتكابات قوات الاحتلال كثيرة. لكن العراقيين سقطوا أيضاً في الامتحان. اعتقدنا أن اعلام الاحتلال ستثير سخطهم وستوحدهم. لم يكن الأمر كذلك. قسم ساير. وقسم هادن. وقسم قاوم. قتل الاحتلال كثيرين. لكن الأكيد أن العراقيين انقسموا وان عراقيين قتلوا عراقيين. وان الانقسام المذهبي كان صارخاً ولا يزال. وان العراق فقد حصانته الوطنية. وان البلد الذي كان لاعباً على مسرح الشرق الأوسط تحول ملعباً للدول القريبة والبعيدة. أنا لا اطعن في وطنية أي عراقي. أنا أتحدث عن سلوك عايشته عن قرب. يزيد في مرارتي أنني من بلد مستباح وأنني أتمنى ألا يسقط العراق في صورة دائمة في ما صار يعرف بوباء اللبننة.
لنترك جانباً مسألة الفراغ الذي سيخلفه انسحاب القوات الأميركية. وانعكاسات هذا الفراغ على علاقات العراق بجيرانه خصوصاً إيران. الأكيد أن القيادات السياسية العراقية لم تواجه موعد اكتمال الانسحاب بالمسؤولية المفترضة. لم يكن سراً أن العلاقات السنية - الشيعية ليست في أفضل أحوالها. وان البلد يعيش أزمة مكونات حادة لم تنجح العملية السياسية في معالجتها. وكان من البديهي أن تستبق السلطة هذا الموعد بإطلاق مبادرة سياسية لترميم المصالحة الوطنية.
لا تحتاج السلطة إلى من يشرح لها حجم الانقسام المذهبي على مستوى الإقليم. وان الأنباء الواردة من حمص تنذر باندلاع أزمة مكونات في سورية. وان لبنان يتجه بدوره نحو أزمة مكونات حادة. وان الملف النووي الإيراني ينذر بمزيد من العقوبات والتحرشات.
الأنباء الوافدة من بغداد تثير القلق. «العراقية» بزعامة اياد علاوي علقت مشاركتها في جلسات البرلمان اعتراضاً على «التهميش» وعدم تنفيذ الاتفاقات. ورئيس الوزراء نوري المالكي يطلب من البرلمان نزع الثقة من نائبه صالح المطلك الذي وصف المالكي بأنه «ديكتاتور اسوأ من صدام». ومسؤول أمني يؤكد أن القضاء يحقق مع عشرة من عناصر حراسة نائب الرئيس طارق الهاشمي لضلوعهم في عمليات إرهابية وثمة من وجه الاتهام إلى الهاشمي نفسه. وإذا أضفنا تأكيد المقاومة العراقية إصرارها على محاربة «الهيمنة الإيرانية» وتصاعد المطالبة بالإقاليم واستمرار الخلاف في كركوك وعليها يحق للمراقب أن يخاف. كل محب للعراق يخشى أن يكون مندفعاً إلى مصير سيء انزلقت إليه بلدان أخرى ومفاده: نطرد الاحتلال لنتفرغ للحرب الأهلية والاقتتال.