هذا الزمن الجميل

خيري الذهبي - تشرين
بعد سهرة عانيت فيها الكثير من نساء العائلة وهن يتحسرن على جمال تلك الأيام, وطبعاً يعنين زمن المسلسلات التلفزيونية التي اصطلحوا على تسميتها بالمسلسلات الشامية, فقررت اصطحاب بعض من أولئك الفتيات في نزهة إلى دمشق العتيقة وبدأت في حي السويقة وزقاق الحطب وباب سريجة وكنت أدفعهن للاستئذان في زيارة بعض تلك البيوت لإجراء بحث ادعينا إجراءه, وطبعاً رفض البعض استقبالنا, ووافق البعض, وكان المرعب هو في الارتباك الصارخ على وجوه الفتيات ممن صاحبنني, فهذه البيوت عادية ضيقة قد قسمت بين أكثر من عائلة بجدران تبدو مؤقتة وإن كانت دائمة فالناس جميعاً يسعون إلى الحصول على الخصوصية في بيوتهم وحياتهم وإن على حساب جمالية البيت الذي ربما كان جميلاً.
كانت بعض البيوت قد سقفت باحاتها بطريقة متعجلة وذلك لحماية البيت من الشمس القائظة والمطر الموحل وأوراق الشجر وأكياس النايلون المتطايرة فاحتبست فيها روائح المطبخ والسكون والنوم, فاحتالوا على الروائح المحبوسة باستخدام شفاطات الهواء المدوية, ولكن أين هذا من الباحة الشامية المفتوحة على الطبيعة؟ بل أين شجر النارنج والكباد وأزهار الشب الظريف. قالت إحداهن, ولكني ظلت محافظاً على صمت (أبو الهول).
تنقلنا بين عدد من البيوت وسمعنا الشكاوى من الزحام والشجارات اليومية بين من كانوا أقارب فصارواً جيراناً.
|
ودعنا دمشق القديمة وأصرت الفتيات على استكمال اليوم في واحد من المطاعم الجديدة التي كانت بيوتاً سكنية, ثم دار الزمن دورته, فرحل أصحاب البيوت إلى دمشق الحديثة وأحيائها الراقية أو المتوسطة وجاء بعض أذكياء المستثمرين فحولوها إلى مطاعم ومقاه يمضي إليها الحانّون إلى زمن مضى يظنونه الأفضل, وما إن دخلنا إلى واحد من هذه المطاعم حتى صرّحت إحداهن: هه. هذا هو البيت الشامي الحقيقي! ولم أجب, بل لحقت بالمشرف على المطعم يقودنا إلى زاوية هادئة, وقالت الأخرى: لِمَ لم تأت بنا إلى هنا منذ البدء؟! وعندئذ اضطررت إلى الكلام, فقلت للسائلة: هل أنت مستعدة للسكن في بيت كهذا؟ نظرت الصبية إلى ما حولها في لهفة, إلى الطابق الثاني بإطلالاته البهية على الباحة إلى الباحة المبلطة بالرخام, إلى الزخارف الحجرية المجددة, وقالت: يا ريت.
قلت: راجعي نفسك. هل أنت مستعدة للسكن الدائم وخدمة بيت بهذا الحجم؟! ونظرت الفتيات كل واحدة إلى الأخرى بعد أن مسحن الباحة والغرف الكثيرة والفرنكات والشرفات بعيونهن, وكنت أراقب رعب الخدمة على وجوههن, وأخيراً تجرأت واحدة منهن. قالت: أم عبده وتقصد اللفاية أو الخادمة المؤقتة التي تزورها يوماً في الأسبوع. أم عبده ستقوم بالخدمة.
فقلت في برود: وهل تستطيع امرأة واحدة خدمة مثل هذا البيت؟!
فقالت الثانية: وإذن؟
قلت: هذه البيوت لم تصمم لنا ولكنّها صُممت للعائلات الأبوية, حيث كان يعيش الرجل وزوجاته وأبناؤه وكنائنه, وكن يتعاونَّ تحت إشراف الزوجة الأولى على خدمة البيت, فليس من امرأة عاملة أو موظفة تستطيع خدمة وإدارة وترميم مثل هذا البيت, ثم أضفت: هذا البيت – المطعم هو واحد من عشرة أو عشرين بيتاً هي بيوت أغنياء المدينة وهؤلاء موجودون حتى اليوم في قصورهم وبيوتهم الدوبلكس أو التريبلكس ولديهم الخدم والخادمات. الذين يديرون مثل هذه البيوت. أما الناس العاديون من أمثالنا, فليس لهم إلا الشقق كبرت أو صغرت إن حصلوا عليها!!
كن يشربن العصائر التي قدمت إليهن في وجوم, وأخيراً تجرأت إحداهن, فقالت: فما الذي تقوله عن هذه المسلسلات الشامية التي نرى فيها سعادة الجدات اللواتي لسن مضطرات إلى المضي إلى الوظيفة يومياً, والرجال ذوي الشوارب الفخمة والنظرات القاسية والحياة السعيدة ضمن تلك البيوت الفرحة.
قلت: الدراما التلفزيونية أو السوب أوبرا كما صنعتها الاستوديوهات الأميركية منذ بداية اختراع التلفزيون. صنعت أصلاً لتستجيب لشهوة التلصص على الجيران الموجودة في أعماق كل منا. إن كلاً منا يشتهي أن يعرف كيف يعيش جاره أو جارته؟ وهل يعانون من مشكلاتنا نفسها. ألديهم الأزمات نفسها أم إنهم كما نراهم في المصعد وفي باحة البناية أنيقين سعداء دائماً.. لذا قام كتاب الدراما بدور تقديم هؤلاء الجيران إلينا عبر ثقب باب كبير بعض الشيء. إنه الشاشة الصغيرة للتلفزيون, حيث نتلصص على جيراننا المفترضين والمصنّعين ليلبوا شهواتنا للتلصص و.. دون إحساس بالذنب, أو خوف من الاكتشاف, ثم تطور الأمر ليقدم لنا الجيران كما نشتهيهم أن يكونوا آباء خيراً منا وأجداداً أسعد منا ناسين الطواعين والمجاعات والغزوات المدمرة والحكام الفاسدين والمآسي التي لم تترك لهم من الفرح أكثر مما ترك لنا زماننا.
قالت الثالثة: لا. لا. أنت تبالغ, النساء على الأقل لم يكن يمضين يوماً إلى الوظيفة, ثم يعدن للعناية بالبيت والأطفال.. ثم لماذا يعجب حتى الرجال في الخليج بهذه الأعمال التلفزيونية؟
قلت: الرجل المعاصر المقهور من رئيسه في العمل ومن السياسيين المتسلطين عليه, ومن سوء المواصلات, ومن ضعف الراتب, ثم من زوجته حين يعود فتطالبه بما لا يستطيع تلبيته.. هذا الرجل حين يرى أولئك الرجال السعداء المسيطرين الذين تغسل لهم زوجاتهم أقدامهم بعد رجوعهم من العمل ويخاطبنهم طيلة الوقت بلقب سيدي, ثم يصرخ بهن فيجرين كالقطط بين يديه. لا يحس أنه مظلوم حين يعيش في هذا الزمان, فجده, جده الباطش القاسي النظرات كان يعيش خيراً منه, هذا الحلم: أليس شيئاً رائعاً فيه من المخدر الشيء الكثير الذي تعانين من صداعه الآن؟!