هل تأخرت الثورة سبعين عاماً؟

منذ العاشرة من عمري كنت أحلم بأن ثورة سوف تنفجر ويخرج الناس جميعاً يصيحون: «العدل والحرية والكرامة».. هذه الكلمات الثلاث شكلت أحلام طفولتي، كانت سلاسل حديدية تحوط جسدي وعقلي وروحي، تسلبني الحرية العدل والكرامة، في كل خطوة في البيت والمدرسة والشارع، سلاسل من حديد أحسها ولا أراها، أوامر وتحذيرات وتهديدات وتحريمات تحت اسم الله أو الأب أو الأم أو ناظرة المدرسة والمدرسين والمدرسات.. في الأربعينيات من القرن العشرين كنا أطفالا نتجمع في الحوش الترابي المحاط بالجدران نهتف بصوت مخنوق: «يسقط البيت والمدرسة»، كبرنا وكبر معنا الهتاف ممتدا خارج أسوار البيوت والمدارس، في كلية الطب تظاهرنا بالآلاف، طلبة وطالبات ضد الاحتلال الإنجليزي، دسنا صورة الملك فاروق بأقدامنا، انتشر رجال البوليس في كل مكان، دوت طلقات الرصاص، سالت دماء الشباب الثائر على الأسفلت، تم إيداعهم السجون، ضربوهم وعذبوهم، بعضهم مات، بعضهم حمل السلاح وسافر إلى القنال يحارب الاحتلال الأجنبي، قُتل بعضهم برصاص الجيش الإنجليزي، قُتل بعضهم بوليس الحكومة والملك، تمت مطاردة الناجين منهم في الصحراء حتى سلموا سلاحهم، مات بعضهم في السجون، ومات بعضهم من وطأة الحزن على عمر ضاع فداء وطن خائن، تم دفنهم جميعا في التاريخ، شربت الأرض دماءهم، لم يكرمهم أحد في الحكومة أو الشعب، لم يكن للشعب المقهور صوت ولا ذاكرة ولا تاريخ، كان الشباب الفدائي هم البداية الحقيقية لثورة الكرامة والعدل والحرية. هل يكرر التاريخ نفسه؟ يتردد السؤال في بداية هذا الشهر «أبريل ٢٠١١»، بعد مرور ستين عاما على صورة جلالة الملك مدهوسة تحت الأقدام، بعد مرور عشرين يوما على صورة فخامة الرئيس مفقوءة العينين بأصبع طفلة، بعد أن هجمت العصابات الحكومية بالأحصنة والجمال والرصاص الحي على الشباب والشابات والآباء والأمهات والأطفال، كانوا في ميدان التحرير يغنون للحرية والعدل والكرامة، سقط منهم الآلاف قتلى وجرحى، امتلأت بهم القبور والمستشفيات قبل أن يسقط فخامته المعظم بعد تسعة أيام، في طرفة جفن يتلاشى نصف قرن وتسعة أعوام كأنما لا شىء، مثل أصحاب الجلالة والفخامة، يصبحون لا شىء بعد أن كانوا كل شىء، أعود فتاة في ريعان الصبا، أدوس صورة صاحب الجلالة وأغني مع الفتيات والفتيان: الحرية الكرامة والعدل، يعود إلىَّ حلم طفولتي في المدرسة الابتدائية أغنى مع الأطفال الأغنية ذاتها، طرفة عين أخرى ويتولى الجيش الحكم تحت اسم الثورة عام ١٩٥٢، يمضي الزمن تسعة وخمسين عاما، طرفة عين أخرى ويتولى الجيش الحكم تحت اسم الثورة عام ٢٠١١، هل يكرر التاريخ نفسه؟ يسألني بعض الشباب ممن صنعوا ثورة ٢٠١١: هل تجهض ثورتنا كما أجهضت الثورات السابقة؟ هل يكرر التاريخ نفسه؟ هل يقفز على الثورة أصحاب الجلالة والفخامة والمعالي بعد وضع مساحيق ثورية ووجوه تنكرية؟.. السؤال الآن لماذا التباطؤ في محاكمة قتلة الشباب الثوري ورؤوس الفساد في النظام السابق وعلى رأسهم المسؤول الأكبر قمة هرم خوفو؟.. لماذا لا يعلن عن بدء المحاكمة اليوم وليس غدا؟.. لماذا تأجيل مثل هذه المحاكمات الضرورية لإحقاق العدل، فتتم تبرئة الأبرياء ويسرى العقاب على من أجرم وأمر بالقتل أو نهب أموال الشعب والسرقة والتزوير والكذب الإعلامي والثقافى؟! أخيرا تغيير القيادات الإعلامية منهم رؤساء تحرير الصحف، لكن لماذا يظل الكاتب الكبير (أو الكاتبة الكبيرة) متربعا على عرش العمود اليومي أو المقال الأسبوعي، الذي كان بوق النظام الساقط والمدافع الأكبر عن الرئيس السابق حتى آخر رمق؟.
لماذا يتعرض رئيس التحرير للخلع ويبقى من هو أخطر منه يمارس الكتابة اليومية أو الأسبوعية، وأصبح يقدس شباب الثورة العظيمة بعد أن كان يقدس فخامة الرئيس المعظم؟.. هل رئيس التحرير أقل جاها وأكثر بعدا عن مراكز الحكم الجديد من ذلك الكاتب الكبير؟ لا شك أنه ليس كاتبا كبيرا واحدا، بل عدد كبير منهم أصبح النفاق يجري في عروقهم مع الدماء، إنهم وأمثالهم في كل موقع مهم يجسدون فساد النخبة المحظوظة الحائزة على الجوائز والحوافز، التي نافقت صاحب الجلالة المعظم في الأربعينيات والخمسينيات، أطلقت عليه لقب الملك الصالح، بعد سقوطه انقلبت عليه ومنحته لقب الملك الفاسد، تكرر النفاق من الرئيس البطل الخالد محرر البلاد، أصبح بعد موته الديكتاتور الشيوعى سبب الهزيمة والعار، ثم جاء الرئيس المؤمن بطل السلام والنصر، وتحول بعد اغتياله إلى خائن باع البلد لأمريكا وإسرائيل، وجاء الرئيس بطل حرب أكتوبر المجيدة الذي رفع رأس مصر عاليا، فأصبح بعد السقوط حامي الفساد، الحرامي، مهرب الأموال الذي جلب العار لمصر هو وأسرته، لماذا لا يقدم هؤلاء الكتاب الكبار إلى المحاكمة مع رئيسهم السابق مع مقالاتهم المتحولة من التقديس إلى التخوين؟!.
نوال السعداوي - المصري اليوم