هل وصل الارهاب الفكري الى فلسطين؟

المخرج الفلسطيني جوليانو  خميس

 

اجتمع امس العشرات في مسرح جامعة جورج ماسون بالقرب من واشنطن العاصمة لمشاهدة فيلم "أولاد ارنا" ولاحياء ذكرى مخرج الفيلم جوليانو مير خميس الذي قتل الاسبوع الماضي في مخيم جنين. جوليانو مخرج وممثل ولد لاب فلسطيني وام يهودية ولكنه اختار أن يعرف عن نفسه بانه مئة بالمئة فلسطيني ومئة بالمئة يهودي.

في عام 1989 بدأت والدته ارنا في العمل مع أطفال مخيم جنين ولاحقا شاركها جوليانو في اقامة مسرح هدمته السلطات الاسرائيلية في الانتفاضة الثانية.

بعد اجتياح مخيم جنين عاد جوليانو ليبحث عن الاطفال الذين كانوا يأتون الى المسرح ليجد بعضهم قد استشهد واخرين يقودون المجموعات المسلحة التي كانت تدافع في المخيم. في فيلم أولاد ارنا قام جوليانو بتوثيق قصص اطفال جنين واحلامهم بمستقبل مزهر بالحرية والفن وكيف اصبحوا لاحقا فدائيين كل يحمل سلاحا وكفنا.

في عام ٢٠٠٦ عاد جوليانو الى جنين وقام ببناء مسرح الحرية ليجدد مسيرة والدته. زرت مسرح الحرية في المرة الاخيرة قبل عدة شهور وكانت المرة الاخيرة التي رأيت فيها جوليانو. لم يخطر ببالي عندها بأنه من الممكن أن يقوم فلسطيني باطلاق النار على جوليانو. لم يخطر ببالي بانها المرة الاخيرة التي اراه بها. إن من أطلق النار على جوليانو أطلقها على كل طفل وشاب فلسطيني في مسرح الحرية و على كل فلسطيني لمسته اعمال جوليانو بل انها رصاصة تحاول قتل الامل الفلسطيني في مستقبل يخلو من الخوف.

منذ بداية التاريخ النضالي الفلسطيني كان للكتاب والفنانين مكانة عالية. لقد كانوا قادة الثورة الفلسطينية على امتداد العقود، من ابراهيم طوقان الى محمود درويش. ورغم اختلاف العديد منهم على بعض التفاصيل وعلى التوجهات السياسة الفلسطينية فقد كانوا خطا أحمر لا يمكن تجاوزه. بل ان اسرائيل كانت تخشى دوما من مدى تأثير الفنان الفلسطيني دوليا وداخليا وجسدت ذلك من خلال اغتيال الكاتب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني أملا في أن تقتل الفكر الفلسطيني من خلال قتل المفكر الفلسطيني. إن أكثر ما ميز الفنان الفلسطيني عن غيره في الدول العربية منذ بداية المقاومة الفلسطينية هو عدم وجود رقابة سياسية ودينية على الفن والابداع الفلسطيني فطالما كان الفن جزءا من النضال الفلسطيني وعاملا اساسيا في كل الثورات الفلسطينية.

إلا أن هذه الحرية قد تكون في مرحلة الدخول الى القفص فالخط الاحمر قد تم تجاوزه والفنان الفلسطيني قد تم قتله والشارع الفلسطيني ورغم احتجاجات في رام الله وجنين لم يغضب كما كان متوقعا منه. وهكذا مر اغتياك جوليانو مر الكرام بعد العديد من كلمات التعزية ووعود المسؤولين بالبحث عن المجرمين القتلة. أما البعض ممن ارادوا انكار الحقيقة بدفن رؤوسهم في الرمل قاموا بالقاء المسؤولية على الاحتلال. إن تجاهلنا هذا التغير في المجتمع الفلسطيني بحيث اصبح تهديد الاكاديميين والفنانين واطلاق النار عليهم امرا مقبولا فاننا امام مأزق يجعلنا تحت الاحتلال الاسرائيلي من جهة والاحتلال الفكري من جهة اخرى.

إن اطلاق النار على جوليانو ليس مفاجأة، فهو ليس الفنان والمفكر الوحيد الذي تعرض لضغوطات بسبب افكاره واعماله الفنية في الاونة الاخيرة، فقد اصبح طبيعيا أن نسمع عن تعرض اكاديميين ومفكرين فلسطينيين في الضفة والقطاع الى ما يمكن وصفه بالارهاب الفكري دون أي عواقب. فأين كانت الشرطة الفلسطينية عندما تم إحراق المسرح مرتين في الاعوام الاخيرة؟ وأين كانت القوى الوطنية عندما هدد جوليانو بالقتل مرارا وتكرارا بسبب الخط السياسي الذي اتبعه في مسرحياته؟ وهل اصبح التفكير الناقد حرمة على الشعب الفلسطيني؟

إن اغتيال جوليانو هو رسالة موجهة الى جمهور الكتاب والمفكرين والفنانين الفلسطينيين بانه لا يحق لهم رفع رؤوسهم او انتقاد من يحملون السلاح أو يملكون السلطة. فإن لم تقم السلطة الفلسطينية بايجاد القتلة ومن خلفهم فإننا امام مفترق طرق اخطر من الاحتلال. إن من قتل جوليانو أراد قتل روح الابداع الفلسطينية والحرية في التعبير والتفكير الناقد والبناء. فإن قبلنا التضحية بحرية الرأي والفن فإن الحرية السياسية وان حصلنا عليها سوف تكون بلا قيمة

في كلمتي عن جوليانو في جامعة جورج ماسون بحثت عن كلمات تعبر عما كان جوليانو نفسه سيقول الان بعدما قتل ثمنا لنضاله من أجل فلسطين، ولم أجد افضل من كلمات الكاتب الفلسطيني سميح القاسم عندما قال "عندما اقتل في يوم من الايام، سيعثر القاتل في جيبي على تذاكر السفر. واحدة الى السلام. واحدة الى الحقول والمطر. واحدة الى ضمائر البشر. أرجوك الا تهمل التذاكر يا قاتلي العزيز، أرجوك أن تسافر."

ربما تكون الطريقة الافضل لاحياء ذكرى جوليانو ورفض اغتيال الفن والفكر الفلسطيني والرقابة المسلحة على الابداع الفلسطيني تتمثل باقامة مسرح الحرية في كل مدينة فلسطينية وبان نصرخ عاليا باننا لن نسمح لاي كان باستخدام كاتم الصوت ضد مفكرينا وفنانينا.

 

عزيز ابو سارة - القدس