هناك خيار ثالث غير حل الدولتين والدولة الواحدة

 

 

من الشائع جدا الآن بالنسبة لمناصري الفلسطينيين والقادة الفلسطينيين أنفسهم القول :"حسنا، علينا أن نتخلى عن الأمل في حل الدولتين".وكما قال أحد القادة الفلسطينيين:"يجب إعطاء اسرائيل المفتاح والسماح لهم بالاستيلاء على كامل الضفة الغربية. ستكون دولة واحدة، ثم نقوم بكفاح حقوق مدنية. نستطيع الفوز في هذا الكفاح، كما حدث في جنوب أفريقيا". لكن وجهة النظر هذه تتجاهل نقطة منطقية واحدة، فهذان ليسا الخيارين الوحيدين.

هناك خيار ثالث وهو أن اسرائيل والولايات المتحدة ستواصلان عمل ما تقومان به حاليا. لن تسيطر اسرائيل على الضفة الغربية. هم لا يريدونها. وهم لا يريدون الفلسطينيين. ولذلك فالمقارنة مع جنوب افريقيا مضللة. جنوب افريقيا احتاجت سكانها السود لأنهم كانوا قوتها العاملة، ولم يستطيعوا التخلص منهم. كانوا ٨٥٪ من السكان والقوة العاملة في البلاد. ومن هنا وتحت العبودية كان عليهم الاهتمام بهم. الكانتونات كانت سيئة جدا، لكن كان المقصود بها أن تكون أقل قابلية للحياة لأن ذلك ضروري لانتاج القوة العاملة.

وهذا لا ينطبق على اسرائيل والفلسطينيين. اسرائيل لا تريد أن تتحمل مسؤوليتهم، وإنما تريد إخراجهم. وهذا شبيه بتعامل الولايات المتحدة مع الهنود الحمر. وليس هناك أي منطق في الاعتناء بهم.، فقط استئصال هذا "العرق غير الضروري" من سكان أميركا الأصليين.

اسرائيل لا تستطيع قتلهم ببساطة. ولا يمكن الإفلات من عواقب ذلك هذه الأيام، بالطريقة التي استطاعت بها الولايات المتحدة الإفلات من إبادة الهنود الحمر في القرن التاسع عشر، وهكذا عليك أن تجبرهم على الخروج. وتصادف أن موشيه دايان الذي كان من أكثر النخبة الاسرائيلية الحاكمة حمائمية كان وزير الدفاع المسؤول عن الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧. ونصح زملاءه في ذلك الحين بأن علينا أن نخبر الفلسطينيين :"ليس لدينا شيء لكم. ستعيشون كالكلاب ومن يغادر سيغادر. وسننتظر لمعرفة ما سيحدث".

وهذه بالضبط السياسة التي يتبعونها. وقد عدلت اسرائيل في السنوات الأخيرة إلى حد ما هذه السياسة. فهم يطبقون نصيحة صناعيين اسرائيليين اقترحوا قبل سنوات أن تتحول اسرائيل عن سياسة الكولونيالية إلى الكولونيالية الجديدة.

وقد تم استيحاء الكولونيالية الجديدة من الفلبين التي كانت النموذج الذي نبعت منه الكثير من البرامج الحديثة لهذا النمط الاستعماري. ونحن نعرف ماحدث خلال الغزو، كالمعتاد، الذي تم بأكثر "النوايا الطيبة". في الوقت الذي ذُبح فيه ٢٠٠ ألف من السكان وارتكبت جرائم حرب هائلة. ولدى آل كاكوي الآن دراسة جيدة عما حدث بعد الغزو، والذي فصّله في ٨٠٠ صفحة. وابتدعت الولايات المتحدة تقنية جديدة للسيطرة على السكان، مستخدمة أحدث التقنيات العصرية. فقد فرضت نظام المراقبة الدقيقة للسكان جميعا، متعاونة مع نخبة متغربنة تعيش حياة مترفة، وقسمت المجموعات الوطنية بطرق مختلفة- نشر الإشاعات، وشراء الذمم. وبالطبع قوة ميليشيات- الشرطة الفلبينية- في حال ما ساـءت الأمور.

وثبت أن هذا كان فعالا جدا. والحقيقة أنه ما يزال مطبقا في الفلبين. وإذا نظرت إلى الصحف اليوم، ستلاحظ أن الولايات المتحدة رحبت بحكومة الفلبين الجديدة. وهم يشيرون إلى أن معظم السكان في حالة بؤس. وإذا فكرت في ذلك، فهذا جزء من شرق وجنوب شرق آسيا لم يشارك في النمو المذهل اقتصاديا في تلك المنطقة خلال العقد الماضي. كما أنه أيضا واحد من أساليب الاستعمار الأميركي الجديد الذي تواصل منذ ١٠٠ عام- نفس عناصر النخبة، ونفس الشرطة القمعية بأسماء مختلفة- بينما الولايات المتحدة في الخلفية، ولكن ليس بعيدا.

كان هذا نمطا ناجحا للغاية من أنماط الاستعمار. وأصبح نموذجا في هاييتي، وجمهورية الدومينكان والعديد من المستعمرات بالنمط الجديد. وانسحب ذلك على الدول الاستعمارية الأخرى كذلك.فقد تبنت الولايات المتحدة وبريطانيا كلتاهما إجراءئات متشابهة للسيطرة على السكان المحليين. أولا خلال الحرب العالمية الأولى وكذلك في الوقت الحاضر. من هنا فبريطانيا واحدة من قيادات مراقبة الشعوب ووراءها على مسافة غير بعيدة الولايات المتحدة. وهما تستخدمان نماذج مطورة تمت صياغتها بعناية كبيرة ونجحت في الفلبين قبل قرن من الزمان.

وقد فهمت اسرائيل أخيرا أن هذا هو الطريق الصحيح للسير فيه. يمكن قراءة ذلك مثلا في رام الله التي هي حسب التقارير الدقيقة بالنسبة للنخبة الفلسطينية مثل باريس أو لندن. هم يعيشون حياة هادئة ولديهم مسارح ومطاعم، مثل أي بلد في العالم الثالث لكن هناك بحرا من المعاناة من حولهم. وهذه هي الطريقة التي يتم بناء العالم الثالث بها. وأصبح لدى اسرائيل في النهاية الإحساس بأن عليها تنفيذ نصيحة صناعييها تحويل فلسطين إلى مستعمرة كولونيالية جديدة. ويمكن الإشادة برام الله والحياة الرائعة فيها وهكذا. ولكن يجب ضبط الوضع بالقوة. وهناك تشابه مع النموذج الفلبيني. والقوات التي تحفظ الأمن هي القوات الفلسطينية التي تم تدريبها من قبل الجنرال الأميركي كيث دايتون. وقد نجحت في فرض القانون والنظام.

والحقيقة أن هذه القوات يمدحها أيضا الليبراليون الأميركيون. فقد تحدث السناتور الديموقراطي جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في معهد بروكينغز مؤكدا أن لاسرائيل وللمرة الأولى شريكا تفاوضيا. وهكذا تستطيع مواصلة الأمل نحو السلام. والشريك هو السلطة الفلسطينية والسبب في شرعيتها، وفقا لكيري، هو أنها تمتلك قوة عسكرية يمكنها فرض القانون وهو يعتبر ذلك نجاحا كبيرا.

وقد تسير فلسطين نحو نفس المصير. وكانت سياسة اسرائيل منذ اعلان اوسلو هي فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية والحيلولة دون أي اعتراف بالوطنية الفلسطينية الأصيلة. وإذا كانت غزة جزءا من الضفة الغربية، كما هي في القانون الدولي، فهذا يعني أن دولة فلسطينية مستقبلية سيكون لها اتصال مع العالم- وسيكون لها ميناء مثلا. وهذا خطير. فهم يردون السيطرة على الفلسطينيين بالكامل وإغلاق المنافذ من جهتي الشرق والجنوب، وبالتالي فصلهم عن غزة. وتم ذلك بنجاح واضح حتى الآن.

وبالعودة للخيارات المتاحة للفلسطينيين، فأحدها هو حل الدولتين، والآخر ليس هو ما تم اقتراحه- حل الدولة الواحدة والنضالات ضد الفصل العنصري. وليس هناك أقل مؤشر على أن هذا سيحدث، وليس هناك تأييد له في أي مكان. ولن تقبله الولايات المتحدة وإسرائيل مطلقا.

لكن الخيار الثالث- الحقيقي- هو الاستمرار في ما يجري، وما يجري ليس سرا. فعليا أوضح رئيس الوزراء السابق ايهود اولمرت هذا الخيار خلال جلسة لمجلسي الكونغرس قبل عدة سنوات مثيرا عاصفة تصفيق. وهو ما سماه اولمرت الانكفاء (تم توسيعه الآن)، وهو يعني أن اسرائيل ستستولي على كل شيء له قيمة بين ما يسمى جدار الفصل - هو في الواقع جدار احتلال، غير شرعي على الإطلاق وليس هناك شك في هذا، وحتى اسرائيل تقر به. وهمكذا ستستولي اسرائيل على كل شيء داخل جدار الفصل مثل الموارد المائية الكامنة تحت جبال الضفة الغربية وضواحي القدس الرائعة ومشارف تل أبيب. وتأخذ كذلك غور الأردن وهو ثلث ما تبقى من فلسطين من نسبة 22٪ هي فلسطين التاريخية. وهذا سيحول الباقي إلى سجن يعيشون في مناطق قاحلة داخلها ممرات استيطانية أما القدس فهي متضخمة حاليا بأكبر من مساحتها الحقيقية، وقد ضمتها اسرائيل بشكل غير قانوني وستستولي اسرائيل علىكل ذلك.

من الشرق هناك ممر عبر مستوطنة معاليه أدوميم التي أقيمت خلال السبعينات بدعم من كلينتون عقب إعلان اوسلو. والهدف من هذا الممر هو شطر الضفة الغربية إلى شطرين، وتمتد إلى أريحا تقريبا وهي المدينة التي ستعطى للفلسطينيين، أما الباقي فهو صحراء.

إلى الشمال هناك زوج من الممرات تخترق باقي الضفة. وهكذا تحصل على "هندسة السياسة"، وهو وصف أرييل شارون للكانتونات المنفصلة كلها عن غزة. وهذا الوصف غير عادل لأنها أسوأ من الكانتونات، للسبب الذي ذكرته. فقد كانت حكومة جنوب افريقيا العنصرية مسؤولة عن توفير مقومات الحياة لكانتوناتها. أما اسرائيل فليست معنية بتوفير هكذا مقومات للكانتونات الفلسطينية. وبالنسبة لها فعلى الكانتونات اتباع نصيحة دايان :ليس عندنا ما نعرضه عليكم، عليكم أن تعيشوا كالكلاب، أو تغادروا إذا أردتم. كثيرون يغادرون، وخاصة المسيحيين. لكن البعض سيبقى في الكلولونيات الجديدة ليكتب عنهم مراسلو "نيويورك تايمز" وعن الحياة الرائعة التي يعيشونها، كما كتبوا مؤخرا. وهذا لا يترك شيئا للفلسطينيين، فقد ذهبوا.

هل يمكنهم تسميتها بدولة؟ يمكنهم ذلك إذا أرادوا. والواقع أن أول رئيس وزراء اسرائيلي يقبل فكرة دولة فلسطينية كان بنيامين نتنياهو، الذي ترأس حكومته الأولى عام ١٩٩٦ للمرة الأولى، خلفا لشمعون بيريس الذي يعتبر في أميركا حمائميا عظيما. ترك بيريس المنصب عام ١٩٩٦ وأبلغ الصحافة أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية أبدا. بعد نتنياهو الذي وصف بأنه صقر كبير جاء وزير إعلامه الذي تلقى سؤالا صحفيا حول الأشلاء هنا وهناك المتروكة للفلسطينيين، وماذا سيقول إن وصفوها بدولة؟ أجاب، حسنا يمكنهم أن يصفوها بدولة أو يصفوها بدجاجة مقلية. نحن لا نهتم. ولن يهتم أحد.

وهكذا كان أول اعتراف اسرائيلي بإمكانية تقرير الفلسطينيين مصيرهم. بعد عامين، قال حزب العمل الشيء نفسه تماما.، وهو أن الخيار الواقعي أنه، إذا لم نقم بشيء، فسنواصل سياساتنا الحالية، وينتهي الأمر بترك ما تبقى للفلسطينيين كدجاجة مقلية. هذا هو الخيار :ليس دولة واحدة، وليس صراعا ضد الفصل العنصري. انها أحلام فارغة، فطيرة في الجو.

هل هناك بديل آخر؟ ماذا عن الخيار الأول وهو حل الدولتين؟ هناك العديد من المشاكل في العالم من الصعب ايجاد حلول لها، ولكن في هذه القضية من السهل بشكل ملحوظ صياغة حل ما. انه هناك. وفضلا عن ذلك، يوجد دعم دولي كاسح له، ويدعمه القانون الدولي. يوجد حاجز واحد في وجهه. وهو أن الولايات المتحدة لن تقبله. هذا هو الأمر. كان مطروحا منذ العام ١٩٧٦ عندما قدمت الدول العربية لمجلس الأمن مشروع قرار بإقامة دولتين ضمن الحدود الدولية، باستخدام صيغة القرار ٢٤٢- الذي يكفل الأمن لكل دولة في المنطقة وبينها اسرائيل بالطبع، داخل حدود آمنة ومعترف بها. وكلها كلمات جيدة. كان هذا الاقتراح عام ١٩٧٦. ورفضت اسرائيل حضور الجلسة، وصوتت الولايات المتحدة ضد القرار- ومرة ثانية عام ١٩٨٠، وصولا إلي يومنا الحالي.

 

نوعوم تشومسكي - القدس