هيدي عم أحكيلك قصة...

 

هيـــــــــــام حموي

 

في مطلع سنوات السبعينيات من القرن الماضي، عُرض فيلم فرنسي من أفلام الكوميديا الخفيفة بعنوان "الحقيبة"، للمخرج جورج لوتنر، الذي تميّز في عدد من أفلامه بتناول مغامرات لجواسيس وعملاء سريين بشكل فكاهي، وسط ما كان يُعرف آنذاك بأجواء "الحرب الباردة" التي كانت مستعرة بين المعسكرين الشيوعي و"الليبرالي"...

 


في اللقطات الأولى من الفيلم المذكور، يرى المشاهد عملية هروب جاسوس إسرائيلي، عبر سطح إحدى البنايات، من مطاردة ملاحقين غير محدّدي الهوية، يتعثر الجاسوس في استعجاله فيقع من السطح إلى شرفة منزل، ويظهر عبر زجاج نافذة الشرفة أفراد عائلة عربية الزي والملامح، يجلسون أمام شاشة التلفزيون ومستغرقون في متابعة حلقة من مسلسل الكاوبوي الشهير آنذاك "بونانزا"، فلم ينتبهوا إلى ضجيج سقوطه بالقرب منهم...

 
كثر من السينمائيين استخدموا فكرة انهماك المشاهدين بما يتابعون من مسلسلات أو مباريات، متقوقعين في غمرة  انجذابهم إلى ما يرون فيتمكن اللصوص أو المجرمون، حسب السيناريو، من استغفالهم وتحقيق أهدافهم دونما أدنى إزعاج.

 


اللافت في الفيلم الفرنسي أن أحداث اللقطات الأولى كانت تدور في ليبيا!!! نعم في ليبيا، والفيلم من مطلع السبعينيات، والأكثر غرابة أن كاتب السيناريو ارتأى أن يلجأ الجاسوس الإسرائيلي إلى السفارة الفرنسية هناك، طلباً للمساعدة، فيسأله الدبلوماسي عما إذا كان أحد قد رآه فتكون الإجابة بما معناه، وبما تحمله من عنصرية، أن هذه المسلسلات لا تترك فرصة للانفكاك عنها، وأنها أصلاً معدّة ليتماهى معها الإنسان العربي الذي يشعر بنوع من الدونية أمام أبطال "الوسترن"...

 
مسلسل "بونانزا" يذكره ربما كثيرون من أبناء جيل الستينيات، هذا الجيل الذي عرف تباعاً، وبتسلسل لاهث، دخول التلفزيون إلى حياتنا العربية بالأسود والأبيض، وبأسوَدِها وأبيضها، ثم حرب حزيران الخاطفة، ثم ولادة المحطات شبه الخاصة في البلد المجاور العزيز الذي يعشق الترفيه عن الذات وعن الغير، في الوقت الذي راح الجوار المنكوب بنكسته يشعر بحاجة ماسة للخروج من أزمة أطاحت بنسبة كبيرة من ثقته بذاته وبمن أودوا بأحلام انتصاراته الموعودة أدراج الرياح.

 

 

 

 


لم تكن بَعد عبقرية الكائن "التنبل" قد ابتكرت جهاز التحكم عن بُعد، والشهير باسمه ذائع الصيت "ريموت كنترول"، فما من حاجة إليه، ورحم الله من اعترف بأن الحاجة هي أم الاختراع، الحاجة لم تكن قد وُجدت بعد: فلكل بلد قناته الرسمية الواحدة والوحيدة... باستثناء البلد المجاور المشار إليه آنفاً، والمستثنى دائماً بإلا... فهو الأول والوحيد في ذلك الوقت الذي فتح فضاءه لأكثر من قناة، فكانت هنالك السابعة ثم التاسعة، وبعد فترة وجيزة التحقت بهما تلك التي حملت الرقم الصعب الثالث: القناة 11.

 
وسرعان ما أغرق الغرب الأوروبي والأمريكي هذه المحطات بالمسلسلات الجذابة، من بوليسية إلى عاطفية إلى مغامرات "وسترن"، ومع انتشار الخبر في المناطق المحرومة من سحر الترفيه الغربي، والتي كانت إطلالتها الأجنبية الوحيدة هي الأفلام الحربية الكورية والفيتنامية والسوفياتية، فقد راحت الأذهان تتفتق عن ابتكارات لالتقاط إرسال "الغوايات" والتلصص على مشاهد المسلسلات المحجوبة.
في منتصف سنوات السبعينيات، اندلعت الحرب اللعينة التي نعرف، في البلد المجاور إياه البارع في وسائل الترفيه، ومن ثم اضطر عدد من شبابه إلى الاغتراب، بعد أن شاركوا لفترة قصيرة  في الاقتتال المؤسف ضمن أحيائهم التي كانت ملوّنة بمختلف أجناس البشر، وكانوا يفتخرون بموزاييكها...

 
ذات يوم في جادة شهيرة من العاصمة الغربية المتلألئة بالأنوار على الدوام، كان الشاب يمشي مزهواً عندما استوقفه صديقه: "شو هايدا يا عمي، شوباك عم تتمختر متل بونانزا"، فالتفت خلفه واضعاً يده بسرعة في جيب بنطلون الجينز وكأنه سيشهر مسدسه بأسرع من ظلّه... ومن سمع العبارة باللغة العربية في العاصمة الغربية في ذلك اليوم لم يغبْ عنه تأثير التماهي مع أبطال المسلسلات على سلوك النفوس الشابة الغضّة.


والمسلسل لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا، بأبطال يتجددون باستمرار، لكن السيناريو واحد، حتى في نتاج الفن الأكثر عصرية، "الفيديو كليب"، وإذا ما حاول أحد التنبيه، انهالت عليه الاتهامات بالشيء ونقيضه، ولا تزال الحكاية بلا نهاية... فعلاً "هيدي قصة بشعة كتير، وبتصير كتير...