هيهات منا الهزيمة...

 

نهلة السوسو. تشرين

 

قال لي، وهو شاب يذهلني بثقافته، وبما أعتبره كشوفاً في عالم المطالعة التي لا تكتفي بإحصاء الأفكار وإعادة إنتاجها، بل تقرأ السطور وما بين السطور:

 

فكرت طويلاً بشخصية عنترة التي حظيت باهتمام الثقافة الإنسانية عبر العصور، ذاك العبد الذي نال حريته بالمصادفة، ولم يكن عبداً فرداً في مجتمعه، بل واحد من طبقة احتقرت وبيعت واشتريت وكلفت بالأعمال الشاقة ولم تشفع له أبوة شداد السيد في قومه، بل القوة البدنية، والشعر الذي أسر به قلب ابنة عمه عبلة! سألته: هل تشكك بوجود عنترة كما فعل بعض المؤرخين والنقاد؟ قال: ما يهمني أن عنترة لم يشكل مشروعاً لتحرير العبيد، بل انتهت معاناته حين قال له أبوه وقد احتدم القتال بين القبائل: كُرّ فأنت حرّ! ‏

 

ذهبت ذاكرتي إلى الأعمال الفنية التي بنيت على سيرة هذا الشاعر الذي خالف الروايات المؤثرة بنهايته السعيدة مع محبوبته: الرسوم والأفلام والمسلسلات والمأثورات والملحمة الشعبية التي رويت عنه في القرن الثاني عشر الميلادي، وللمفارقة خلت هذه الملحمة المروية من جزالة اللغة وجماليتها التي توجها الشعر العربي من مراحل ما قبل الإسلام حتى نهايات العصر العباسي!

 

قال بهدوء من يمسك الأسرار: حين حكم السلاجقة الأتراك أرضنا العربية في بدايات القرن الثاني عشر الميلادي، وأخرجوا التعليم من المساجد تهالكت الثقافة العربية فانحطّ الشعر وتوقفت المقامات والمؤلفات الفكرية الجامعة، وأخليت الساحة للناس البسطاء، الذين على ألسنتهم وبلغتهم التي لم تحترف البلاغة والجزالة، أنتجوا أشهر السير المروية، سيرة عنترة، والسيرة الهلالية وسيرة سيف بن ذي يزن! ألا تذكرين كيف انتزعوا من التاريخ شخصية سيف الملك اليمني الذي توفي بعد ميلاد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) بثلاث سنوات، ومع ذلك ألبسوه قيم الشجاعة والنبل والدفاع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة ومساعدة أعوان لم يجدوا غضاضة في جعلها من الجن؟ كان التوق الشعبي إلى قائد عربي، يخلّص الناس من الاحتلال والتقسيم والغرباء الذين جثموا على الأرض وسرقوا خيراتها وأهانوا أهلها، وقتلوا ثقافتها الأصيلة، توقاً ذهب إلى الخيال كي لا تزول الأمة، كما زالت أمم وأخذها النسيان لتصبح فقرة صغيرة في كتب التاريخ!

 ‏

تصفحي ما كتب عنا منذ السومريين حتى هذا العصر! ‏


 

كم من غزاة قدموا إلى هذه الأرض وسفكوا الدم ولونوا به الأنهار مع حبر الكتب! كم سُمّدت هذه الأرض بالشهداء جنباً إلى جنب مع العمران المدمر والأشجار المحروقة! كم من رايات غريبة دخلت مع طلائع محتل جاء من الشرق تارة ومن الشمال تارة ومن الغرب تارات؟ كم حاصروا القادة الكبار بالنار وحين فشلوا حاصروهم بالمؤامرة والمناورة وشراء الذمم والعملاء؟ ومخطئ من يقول إن تاريخنا سلسلة من الهزائم، لأنني ومن قراءة هذا التاريخ أراه ناصع الانتصارات فالصراع مع العدو، أي عدو، ليس مباراة بجولات زمنية محددة، بل هو صبر مديد وحفاظ على الذات من الفناء بكل وسيلة ممكنة، وتعلمين أن الكثير من الغزاة، دخلوا في ديننا وتأثروا بلغتنا وثقافتنا قبل أن يرحلوا عنا بلا عودة! انظري إلى حالنا اليوم وقد جاءنا سلاجقة جدد من الشمال، يناصرهم غزاة الغرب أنفسهم والعملاء الذين ينتجهم الواقع في كل زمان ومكان.. ‏

 

انقطع كلام الشاب وعيناه معلقتان على الشاشة التي أزهرت بآلاف الأعلام في ساحة الأمويين، غيّر جلسته متوجهاً بكل حواسه إلى الشاشة: لسنا بحاجة إلى الخيال لإنتاج قائد عربي، يصد عنا الهجمة المسعورة، فها هو أمامنا، وبيننا، وقربنا، ومع تردد أنفاسنا، ولكم أصدق هذا الفرح الذي يحيط به، لكم أصدق هذه الحناجر التي تهتف له ولبقاء الوطن عزيزاً، كريماً، لكم أصدق هذه الدموع التي تنهمر من عيون الأمهات والشيوخ والشابات!

هل تذكرين كيف عمل الإعلام عشرات السنين لتثبيت صورة المعجبات اللواتي يصرخن ويولولن لرؤية مطرب أو نجم مزعوم؟ أنتعش بكل أحلامي حين أرى صورة وطني وكأنني نبضة من نبضات قلبه!! ويمسح دمعة من عينه وقد ارتجف صوته: هل سمعت؟ هيهات مني الهزيمة.. ‏

 

أعرف جيداً أنك سمعتها لكنني أرددها لأن مذاقها عظيم ولأننا لسنا أمة قوّالة وسلاحنا في زمن العزة ليس مجرد مخيلة واستدعاء شخصيات من الماضي لإلباسها ما نفتقده في هذا الحاضر المرير. ‏