وأخيراً... زرت الحرم الإبراهيمي

 

أشارك في المؤتمر أو لا أشارك فيه؟ ترددت حين علمت أن جامعة الخليل ستعقد، هذا العام، مؤتمراً أدبياً عن الأدب الفلسطيني بعد (أوسلو).

يا إلهي إن السفر إلى عمّان أسهل من السفر الى الخليل. هل هذا صحيح؟ لو كنا نصل الى عمان، كما كنا نصل اليها قبل عشرة أعوام أو يزيد – أي عن جسر دامية، عبر مرتفعات العارضة فصويلح لما اختلف الأمر.

الطريق الى الخليل، عبر وادي النار، يبعث الحزن في النفس، لمن لم يعتد قطع هذا الوادي، وهو في منحدراته لا يختلف عن منحدرات العارضة. قبل تعبيد الطريق، هنا وهناك، كان السفر يبعث على الخوف. لكني انا الذي سافر الى عمان عشرات المرات، عبر طريق العارضة، لم أكن أخاف، فقد كنت شاباً، على الرغم من أن الطريق لم يكن معبداً.

وقبل 1987 كنت أسافر الى الخليل، عبر طريق القدس – بيت لحم، لا عبر طريق وادي النار، ولهذا، ولأنني كنت شاباً، فلم أكن أخشى السفر، خلافاً للأعوام العشرة الأخيرة التي سافرت فيها الى بيت لحم والخليل ست مرات تقريباً عبر وادي النار. يا إلهي: ما الذي كان يجعلني أوافق على المشاركة في ندوة أو مؤتمر أو مناقشة رسالة ماجستير؟ هل يستحق الأمر رؤية وادي النار؟ جازاهم ربهم، أبناء العمومة هؤلاء، على ما فعلوه بنا ويفعلونه. ليجازهم بما يراه هو، فلعله يرانا نستحق هذا العذاب، لعله!
سأتردد في المشاركة في المؤتمر، ولكني، كعادتي، سأخجل من زميلي د. حسام التميمي، وسألبي دعوته، وسأسافر الى الخليل، وسيشجعني على هذا مشاركة زميلين لي في المؤتمر. نسافر معاً. نزور الخليل معاً، ثم نعود معاً. وفي الطريق الى الخليل سيقص أحد زميليّْ، ممن عملوا في الخليل ثلاثة عشر عاماً، عن معاناته خلالها، بخاصة في سنوات انتفاضة الأقصى. زميلي من كفر الديك، وسيضطر للإقامة في الخليل مع عائلته، ولكنه سيزور أهله بين فترة وفترة. في المناسبات. في الأعياد، وعليه أن يقطع هذا الطريق والحواجز التي كانت بعدد أصابع الكفين. وقد يضطر لأن يستأجر سيارة إسعاف بـ (500) شيكل. معاناة مادية، تهون أمام المعاناة العسكرية والشوارع الترابية والسير بين الصخور. وسيصطحبنا زميلي لزيارة البلدة القديمة من الخليل، ولزيارة الحرم الإبراهيمي.

كنت أرى البلدة القديمة من الخليل من على شاشة الفضائيات. أراها وأرى الناس فيها: أراهم قلقين خائفين يشرحون معاناتهم بسبب الوضع الداخلي؛ فالخليل المحتلة ما زالت مسكونة بالجيش الإسرائيلي وبالمستوطنين، طبعاً في بعض أحيائها. وأنا لم أزر البلدة القديمة هذه منذ العام 1983. آخر مرة زرت البلدة القديمة وحدي، ولكني، إن لم تخني الذاكرة، زرتها، برفقة طلاب قسم اللغة العربية، في العام الذي توفي فيه سعد الله ونوس. أظن هذا، فقد بحثت عن جريدة "الأيام" فيها لمتابعة أخباره في ملحق "أيام الثقافة"، وأظن أنني يومها، دخلت برفقة الطلاب، الحرم الإبراهيمي، لكني لم أعد أذكر تفاصيل تلك الزيارة. هل أبقت سنوات الانتفاضة الثانية ذاكرتنا حية مشتعلة؟ ماذا أبقت لنا من ذاكرة، وماذا أخذت معها؟


سأدخل الى الحرم الإبراهيمي، بعد السير في شوارع البلدة القديمة. وأنا أرى مباني البلدة القديمة تذكرت البلدة القديمة في نابلس، لكني تذكرت أكثر عكا في العام 1983. كنت أزور في تلك السنوات عكا وأزور يعقوب حجازي ودار الأسوار، وكنت أرى المتاجر في البلدة القديمة مغلقة. فيما بعد سأعرف أن بعضها تحول الى ما يشبه دور الفنانين والى ما يشبه أماكن عرض صور ورسوم ومسرحيات. سأعرف هذا، فلم أعد أزور المدينة منذ العام 1987. كان أبناء العمومة هناك يضيقون على سكان عكا العرب، وما زالوا في الخليل يضيقون الخناق على سكانها العرب الذين ترك أكثرهم محلاتهم وبيوتهم ليقطنوا في أحياء بعيدة لا يحتكون فيها بأبناء العمومة من المستوطنين، فيقل خوفهم ورعبهم ورجمهم بالحجارة وبالطوب، وإذا اقتضى الأمر بالرصاص، كما فعل السيد الطبيب (غولدشتاين) في شباط 1994.


سأدخل الى الحرم الإبراهيمي الى ما تبقى منه لزيارته وتأدية الصلاة فيه. أخضع، مثل غيري، لتفتيش إلكتروني، كأنني مسافر الى عمان، أو كأنني، أمام الانتفاضة، أقطع حاجز حوارة، في الطريق الى رام الله. وسأرى المباني القديمة، قبور أسيادنا الأنبياء، أنبيائنا وأنبيائهم. يا إلهي، نحن وهم نصلي لك، ونتطلع إليك، ثم نقتتل فيما بيننا لأجلك. هل رأى كلا الطرفين رؤية ما؟ هل رأى كلا الطرفين أنك تأمرنا أو تأمرهم بأضحية هي الطرف الآخر، أبناء الديانة الأخرى؟ ولا يجوز أن نفتدى، نحن أو هم، بكباش سمينة؟ ربما.


سأتذكر عبارة محمود درويش التي وردت في قصيدته "في القدس" "كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟ أمِن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟". سأتذكر العبارة وأنا أنظر في حجارة الحرم الإبراهيمي وأصغي الى الدليل يوضح لنا ما في الحرم من قبور وأضرحة لأسيادنا الأنبياء، أنبيائنا وأنبيائهم. هل كنت وأنا أسير في الحرم خائفاً؟ أين هو المكان الذي قتل فيه (غولدشتاين) المصلين؟ هل أرى دمهم؟ هل أكرر عبارة الشاعر: دمهم أمامي لا أراه. كأنه طرقات يافا، كرميد حيفا، لا أراه.
وأنت تدخل الحرم لا بد من اجتياز أكثر من معّاطَّة. ربما يتذكر بعض القراء دفتري: "المعاطة"، فقد كانت هناك، في الطرق بين مدن الضفة، كما على الجسر، غير معاطة. إننا كالدجاج: نذبح ثم لا بد من سلخ جلدنا/ ريشنا. طريف مصطلح المعاطة هذا، وهو إفراز مخيلتنا الشعبية. من سيفهم العبارة غيرنا؟
وأنت في الخليل تقول: كان الله في عون أهل الخليل، بخاصة سكان البلدة القديمة. مثلهم مثل سكان القدس – أعني البلدة القديمة أيضاً. هؤلاء، لا شك، سيصابون بالبارانويا، بسبب المستوطنة/ فوبيا أو الاستيطان فوبيا، وبسبب الإرث الديني والماضي الدموي في فترات معينة من تاريخنا المشترك، وبسبب اعتقاد بعض المتدينين بأن الخليل هي مدينتهم أيضاً.
سأعرف من زميلي أن البلدة القديمة في رمضان تكون شيئاً مختلفاً.

في رمضان تفتتح المحلات بعد الإفطار بتشجيع من جمعيات ومنظمات أوروبية، حيث يتواجد المراقبون الدوليون ليمنحوا الناس الأمان. سأتذكر قصة أكرم هنية: "عندما أضيء ليل القدس" التي كتبها في العام 1986 عن فرح أهل المدينة في رمضان في تلك الأعوام. هل سيكتب قاص خليلي قصة عنوانها: عندما أضيء ليل الخليل؟ ربما.


طبعاً سأشارك في المؤتمر، وسألقي ورقتي عن كاتبة أصولها من الخليل: ليانة بدر ابنة عبد الرحيم بدر الشيوعي العريق. سألتقي بالناس، بالأصدقاء الذين لم أرهم منذ سنوات أو أشهر، وسأشتري المَلْبَن الخليلي أيضاً. وسأغادر المدينة.


في أثناء العودة من الخليل الى رام الله، فنابلس، سيتحدث السائق الخليلي. سيقص قصصاً كثيرة، ربما احتاجت كل واحدة منها الى كتابة خاصة، لكنني سأتذكر قصتين؛ الأولى عن المباني التي تتكاثر ما بين الخليل والقدس، وحين تتكاثر هذه أكثر وأكثر، ويمشي الديك على سطوحها، فيصل الى القدس من الخليل، تقوم القيامة، والثانية عن درجات الحرم الإبراهيمي التي لا يجوز للمصلين اليهود تجاوزها. سبع درجات فقط فإذا ما أخطأوا وصعدوا الدرجة الثامنة قامت قيامتهم وانتهى أجلهم، والكتابة عن زيارة الخليل قد لا تنتهي. قد.

 

 عادل الأسطة - الأيام