ودارت الأيام...

 

هيام حموي. البعث

فكرة التعميم، سلباً أو إيجاباً، فكرة جائرة وظالمة تهضم حتماً حقوق أفراد استثنائيين على حساب مجموعة غير استثنائية على الإطلاق، كأن يُقال مثلاً  إن الشعب الفلاني بخيل أو كسول أو غير ذلك من الصفات المسيئة، والملاحظة قائمة حتى فيما يتعلق بتعميم الصفات الحميدة، لكن عندما تتكرر ظاهرة ما، بنسبة كبيرة، فإن على المراقب أن يتحلى بقدر لا بأس به من الموضوعية كي لا يقع في فخ التعميم، وأحياناً يجد نفسه من حيث لا يدري قد انضم إلى لائحة هواة التعميم، وقد يكون الأمر من باب الاستسهال اللاواعي.

 

 


المثال الذي يفرض نفسه هو تلك العلاقة الغريبة التي يمكن ملاحظتها بين الشعبين الفرنسي والأميركي، وسنضطر إلى اللجوء للتعميم من أجل محاولة رصد الظاهرة:

 
من خلال متابعة العديد من المنجزات العلمية التي يتم تسويقها تجارياً على أوسع نطاق كمنتجات أميركية متميزة، وفي مختلف أنحاء العالم، نجد أن هذه المنتجات أوالمنجزات فرنسية الأصل والمنشأ، ففن السينما ابتكار فرنسي اهتدى إليه "الأخوان لوميير" حيث قدّما أول عرض سينمائي في باريس، كما هو معروف، عام 1895 بالاستناد إلى اختراع فرنسي هائل آخر ألا وهو إمكان تثبيت برهة من الزمن على شكل صورة فوتوغرافية بواسطة جهاز التصوير الذي تعاقب على تطوير فكرته الأولى أكثر من مبتكر، وكلهم فرنسيون، بدءاً من المدعو جاك شارل، الأول في التوصل إلى تثبيت ما يشبه الظل على ورقة مشبعة بكلوريد الفضة، وكان ذلك عام 1780، تبعه جوزيف نيسيفور نيبس عام 1826 بعد أن تمكّن من إنجاز ما يمكن اعتباره صورة حقيقية على صفائح قصدير، وقد استغرقت العملية بضع ساعات في حين تم تسجيل اختراع فن التصوير رسمياً في العام 1839 منسوباً إلى لويس داغير الذي اختصر المدة اللازمة إلى نصف ساعة فقط. النتيجة أن هوليوود الأميركية هي اليوم في نظر الجميع العاصمة العالمية للفن السينمائي.

 

 


الكاتب الفرنسي الذي يشهد له العارفون بأنه مبتكر أدب الخيال العلمي، كان قد أصدر رائعته "من الأرض إلى القمر" في عام 1865، وفيها تخيّل رحلة إلى كوكبنا الرومانسي على متن قذيفة مدفع عملاق تكون منصتها في الولايات المتحدة الأميركية، وبخاصة ولاية فلوريدا، والواقع أن الأميركيين نفذوا الفكرة تقريباً بحذافير خطوطها العريضة، بعد قرابة 100 عام.. وعرفت الدنيا بأسرها أنهم أول من وطئوا سطح القمر.
تمثال الحرية الذي اتخذوه رمزاً لهم، هو أيضاً من تصميم الفرنسي فريدريك بارتولدي، بينما صمم هيكله الإنشائي الفرنسي الآخر غوستاف إيفل، باني البرج الأشهر في العالم والذي يحمل اسمه، في حين تحتفظ فرنسا بنسخة مصغرة عن السيدة ذات المشعل تنتصب بكبرياء على أحد جسور نهر السين في باريس. 

 
في ثمانينيات القرن الماضي، ابتكر الفرنسيون جهازاً يشبه الكمبيوتر الذي تباهى به الأميركيون قبل انتشار "اللابتوب" ومن ثم "الآيباد"، وكان يُعرف باسم "المينيتل"، ويحقق التواصل الاجتماعي بشبكات حكومية وأخرى تخدم العلاقات الاجتماعية، لكنه فجأة انقرض لتحلّ محله شبكة الانترنت بكمبيوتراتها التي بدأت كبيرة الحجم ثم تضاءل حجمها مع ازدياد سرعتها وتضاعف خدماتها.
أما في سنوات التسعينيات من القرن الماضي ذاته، فقد اخترع الفرنسيون هاتفاً جوالاً كان يعرف باسم "البيبوب"، والتسمية مستوحاة على الأغلب من اسم إيقاع موسيقي راقص خاص بلون "الجاز"، المشكلة في هذا الجهاز كانت تكمن في أن تغطية شبكته لم تكن واسعة النطاق، وكان يُدل عليها بواسطة شريط ثلاثي الألوان مثبت على أعمدة الكهرباء أو على الأشجار، أي على المتصل أن يقف تحت الشجرة أو بحذاء العمود، مما كان يؤدي لمفارقات طريفة للغاية.

 


بعد فترة وجيزة من نجاح البيبوب، اقتحم الأميركيون الأسواق الفرنسية والعالمية بنظام "الخليوي" أو"السيلولير"، وبقوة لم تترك أدنى فرصة للابتكار الفرنسي ليتمكن من تطوير نفسه.
لكن سيدة أعرفها كانت متعلقة بجهاز البيبوب ولم تقتنع بجدوى استبداله بالجهاز الأميركي، إلى أن بقيت هي المشتركة الوحيدة في الشبكة التي كان على الشركة المالكة لها أن تقفل أبوابها بعد إفلاسها، وخشيةً من تعقيدات قانونية، راحت الشركة تفاوض السيدة على إلغاء اشتراكها، حتى إنها دفعت لها تعويضاً مقابل ذلك.

 
خلاصة القول: مازال التنافس بين الشعبين، الفرنسي والأميركي، مستمراً منذ "سايكس بيكو" وحتى اليوم، والخلاصة الأهم مفادها أن من يتمسك بثوابته .. ممانعاً.. يكسب مهما "دارت الأيام"!!.