وصيتك الغالية

نهلة السوسو - تشرين
حين رأيتني أبكي, وأمامي القهوة المنسية الباردة, قلت لي ضاحكاً: خيراً إن شاء الله؟ منام جديد من مناماتك التي تنذر بسوء؟.
وخطفت نظرة إلى التلفزيون الذي أصبح من أكثر أفراد العائلة ثقلاً على قلبي وسنوات حياتي التي أمضيتها خائفة عليك! كانت التوابيت الملفوفة بالعلم تتقاطر بلا توقف محمولة على أكتاف الرجال, يمطرها الورد والأرز, وقلبي يزداد يقيناً أن الحامل سيغدو محمولاً بعد أيام, وتقول لك دمعتي: أليست كثيرة على الروح, هذه الصناديق التي ترحل من المشافي إلى المدن والنجوع والقرى التي لم أسمع بها في حياتي؟ كأن الألوان اختفت من الوجود, كما اختفت الرحمة من قلوب القتلة عدا الأسود والأبيض والأحمر والأخضر.
ترى بمَ يشعر القاتل وهو يرى الصناديق الراحلة في الاتجاهات الأربعة؟ هل يختلس إليها النظر وهو يزّيت سلاحه أم يحضر رصاصات جديدة أم يواصل التحدث بالهاتف مع مشغّله ليحدد له موعد القبض القادم؟ تقول لي: هذه ليست مجرد صناديق ملفوفة بالنجوم الخضر يا أمي, وقد ارتفع فيها, قبلي, أخوك وأبي! قبلك؟ أقلت: قبلي؟ أبعد الله الشر عن عتبة بيتي وحفظ لي صخبك وضحكتك وعودتك المبكرة بالخبز الساخن من الفرن, ورائحة شايك الذي لا تكف عن التغزل به!- الشهيد محفوظ في علّيين يا أمي, وكل ما ذكرت تفاصيل تذيبها الأيام قبل أن تنقلها إلى حيوات الآخرين..
تعلمي, فحسب, ماذا ستقولين على التلفزيون حين يصلك خبر استشهادي!
قلتها مازحاً أم مستشفّاً ما سيجري بعد خروجك بساعات؟ وكيف استطعت أن تتحول من روح بيتي إلى مجرد اسم على شريط الأخبار الذي لم أقرأه أنا, بل سمعت به بعد أن زغرد جرس الباب مرات لا تحصى من الجيران الذين جاؤوا للتحقق من الخبر, وأي حقيقة أقسى من الحقيقة التي أصابتني بالهلع حتى إنني نسيت اسمك بين زحام الأسماء من الراحلين الذين بكيتهم قبلك! أنت نزار ومحمد وأحمد ومحمود وجورج وصالح وحسن وإبراهيم وطوني وحمزة وزهير ورواد وعبد الله.. لم أعد أتذكر أي مؤهل تحمل: شهادة عالية أم علوماً متواضعة؟ اختفيت كما كنت أتوجس في زحمة الصناديق المحمولة على أكتاف الرفاق! أقلت صناديق مرة أخرى؟ لقد عمي قلبي لأنني حسبتها كذلك حين باتت الشاشات تعرضها كأنها عداد الثواني في أجهزة السيارات والساعات والمايكروويف لكن بعد أن غادرت بيتي بلا عودة أريد أن أقول لجيراني ومحبيك, الذين جاؤوا ليس للتأكد من الخبر كما قالوا, بل لاختبار أنفاس بيتي الفقير من بعدك: في ذلك الصندوق الخشبي الملفوف بالعلم غرسة قلبي التي كبرت من وجع أصابعي وفناء بصري وانحناء ظهري حتى لا ينفذ البرد والأرق والقلق إلى شجيرتي الخضراء التي ادخرتها لشيخوختي!
يا حبيبي الذي انقصف عوده قبل أن يتم الخامسة والعشرين في أي صندوق أنت لا تأكد أنك نلت نصيباً وافياً من الورد والأرز؟ وحين أغمضت عينيك ما المشهد الأخير الذي رأيت؟ وجه القاتل الجائر الذي ليس بينك وبينه ثأر ولا معرفة, ولم يتقاطع لك معه طريق؟ ماذا رأيت يا نور عيني وعيناك ماكانتا ترصدان إلا جمال الكون الذي أبدعه الخالق من أجل عباده؟ كنت تهز بأصابعك نبتة الحبق في أصيصها وتعلو ضحكتك: انتبهي إنها كرأس طفل تشاكسينه وبدل أن تبكي تطلق رائحتها الشقية فتركض من الشرفة إلى غرفة الجلوس والمطبخ.. وكنت تسترخي حين يأتي المساء وعيناك إلى الجبل أو البحر أو البراري قائلاً: لولا هذا الأفق المفتوح لذهبت إلى التابوت طائعاً مختاراً.. وبنظرة مواربة ترقب ردة فعلي على ذكر التابوت وتسمع أمنيتي الأزلية: ليكن يومي قبل يومك..
تضيق نفسي ياابن قلبي وروحي لأنني لا أستطيع سماع أصوات أمهات وأخوات وزوجات وبنات رفاقك المحمولين على الأكتاف وقد توحدتم جميعاً بألوان العلم, وقد عزّ السفر إليهن في المدن والقرى للقاء الدموع, وما أكثر البيوت المفتوحة أبوابها وكم تُليَتْ سورٌ من القرآن الكريم وصدحت أجراس الكنائس للاستقبال والوداع, وكم من أم نهضت لتشم روائح الملابس المتروكة والصور المبعثرة والوسائد الخالية, وفناجين القهوة الفارغة حيث يرن الهاتف فلا تجد جدوى من الرد عليه, لأن صاحبه قضى في موت ليس له فأنت لست أباك ولا خالك اللذين غادرا من الحدود والثغور وليس من شوارع المدينة التي عشت وكبرت في أمنها.. وإن كانت الوصايا تحفظ للأعزاء يا أعز عزيز فإنني استميحك عذراً لأنه إن وصل التلفزيون ليسألني عنك فلن أستطيع الكلام, لأنني منذ عزتني جارتي بك فقدت صوتي, فهل في مثلك يكون عزاء وتنزل على القلب سكينة السلوان؟!