وعدي إلك.. وعد الصوت...

هيام حموي. البعث
كان ينتمي إلى فئة المدرّسين الذين يتركون أبلغ الأثر في نفوس تلامذتهم، فقد استطاع أن يحوّل جفاف حصص الفيزياء المقرّرة لمناهج المرحلة الإعدادية، في ستينيات القرن الماضي، إلى ينابيع تتفجّر منها الأفكار المبتكرة التي تجعل الرؤوس الصغيرة مشدودة الانتباه إلى تجارب تبدو عجيبة في طبيعتها لكنها مرتبطة فعلياً بواقع الحياة اليوميّة، منها على سبيل المثال تلك التجربة التي يتمّ فيها طلاء المعادن بواسطة شحنة من التيار الكهربائي داخل سائل، على غرار ما كان يفعله حرفي تبييض الأواني النحاسيّة الذي كان يمر سنوياً على منزل العائلة ليجدّد ألق الملاعق والقدور بعد أن علاها اللون الرمادي.
أستاذ الفيزياء هذا كان أول من سَمعَتْ منه في زمنها عن حجر الفلاسفة، تلك المادة الأسطورية التي يُعتقد أنها تستطيع تحويل الفلزات الرخيصة كالرصاص إلى ذهب، كما يمكن استخدامه في صنع إكسير الحياة. وعن أستاذ الفيزياء ذاته سمعت للمرة الأولى فكرة أن العلم، إذا ما تمكّن من اختراع وسيلة نقل تتجاوز سرعتها سرعة الضوء، فإننا نستطيع أن نلحق بأصوات من عاشوا في العصور الغابرة، وأن نستمع إلى نبراتهم وإلى ما دار بينهم من أحاديث، سرّية وغير سرّية، إلى آخر التداعيات التي يمكن أن يشطح نحوها الخيال البكر لمراهقي الإعدادي.
غاب الاسم الكامل لهذا المدرّس الفذّ عن ذاكرتها، تمنّت لو أنها تتذكره فتطلق خلفه محركات البحث للتفتيش عنه، فهي على قناعة بأنه كان سيُدهش، دون شك، لحكايتها الواقعيّة، مثلما كانت هي تُدهش لآفاق دروسه العلمية التي لم تكن تتردّد في امتطاء صهوة الخيال.
حدثت الحكاية في زمنين: عن الأول، تروي الواقعة أنه بتاريخ 24 كانون الأول من العام 1907، اجتمع في أحد أقبية دار الأوبرا بباريس، عدد من عشّاق الغناء الأوبرالي، وقاموا بتنفيذ طقس غريب يتلخص في دفن أربع وعشرين أسطوانة سُجّل عليها، بتقنيات ذلك الزمن، أصوات أشهر مغني العصر، بعد أن تمّ حفظها مكدّسة في جرار مصنوعة من مادة الرصاص.
الأسطوانات كانت مفصولة عن بعضها البعض بألواح زجاجيّة، ومحفوظة داخل أكياس قماشيّة مختومة بالشمع الأحمر، ومرفقة بلائحة تتضمّن تفاصيل عن صاحب الصوت والمقطوعة المغنّاة، في حين كانت كل جرّة مغلقة بإحكام، مع توصية بعدم الكشف عن محتوى الجرار إلا بعد مرور مئة عام بالتمام والكمال، وقد تعهّد وزير الثقافة الفرنسي آنذاك، أريستيد بريان، رسمياً، بأن يلتزم كل من يخلفه في المنصب بوصية المانح الراعي للمبادرة.
في مرحلة ثانية، عاد أصحاب الفكرة المجنونة للاجتماع في القبو ذاته بعد عدّة شهور، في أيلول 1912، ليضيفوا إلى الكنز الصوتي الأول، المُهدى إلى الأجيال اللاحقة، كنزاً آخر، ألا وهو دزينتان جديدتان من التسجيلات الصوتيّة، إضافة إلى جهاز الـ"غراموفون" الملائم لإسماع هذا النوع من الأسطوانات، فأصحاب الفكرة كان لديهم من بعد النظر والقدرة على استشفاف المستقبل ما دعاهم إلى تأمين وسيلة الاستماع للكنوز المدفونة بالقبو. طبعاً صحافة العصر عملت على توثيق المبادرتين، والوثائق لا زالت تشهد على الحدث في المكتبة الوطنية الفرنسيّة.
رهان صاحب الفكرة، ألفرد كلارك، وهو من هواة الأصوات الجميلة، ومعه رئيس شركة الصوتيات الفرنسية "غراموفون"، آنذاك، إتاحة الفرصة لمعرفة مقدار ما يمكن أن تحقّقه تقنيات الصوت من تقدّم في مدى قرن من الزمان، من جهة، والرهان الآخر من جهة ثانية هو حفظ أصوات ذلك الزمن في ما أراده "كلارك" كإنجاز يمكن تسميته "متحف الصوت".
في الزمن الثاني، بالتحديد في 17 أيلول من العام 2008، أي بعد مرور قرن من الزمان بقليل، وفي احتفال رسمي يليق بالفكرة العبقرية، تمّ استخراج الجرار المقفلة من قبو الأوبرا الباريسية، مع جهاز الغراموفون، وبكل الاحتياطات الممكنة، حدثت المعجزة واستمع الحضور إلى الأصوات التي انتظرت 100 عام لتأخذ طريقها مجدداً إلى الأسماع.
أثناء متابعة تلك الاحتفالية على شاشة التلفزة الفرنسية في أواخر صيف 2008، تذكرّت عاشقة الأصوات والأرشفة والتوثيق أستاذ الفيزياء في المدينة العربية البعيدة، وحلمت بتحقيق وعد الصوت الذي يمكن أن يُسمع إذا ما سبقنا سرعة الضوء، أو بواقعيّة أكثر، إذا ما سبق تفكيرنا سرعة الظلام والظلاميين.