ويستمر الجــلاء

د. صابر فلحوط. البعث

يبدو أن قدر شعبنا أن لا يترجل، فلا يخرج من ميدان إلا ليدخل في معركة ضروس، أدهى وأشرس ضد أعدائه، ومغتصبي حقوقه وأرضه، وكرامته. كذلك كان شأنه في مطالع القرن العشرين إبان الاستعمار العثماني البغيض الذي اتخذ من القيم الروحية الدينية دريئة ودرعاً يخفي بهما أطماعه ونواياه، فأناخ على صدر الأمة العربية أربعة قرون عجاف، وكذلك كان حال الاستعمار الغربي ممثلاً بامبراطوريتي الشر، فرنسا وبريطانيا، بعد إدخال الرجل المريض غرفة العناية المركزية في حالة الموت السريري بعد الحرب الكونية الأولى غداة تخلص العرب من الاستعمار التركي ليبتلوا بالاستعمار الأوروبي الأخطر والأرهب.


ولعله من المضحكات المبكيات أن أفاعي الوقيعة والخديعة عادت تطل بروؤسها عبر أحفاد الاستعمارين التركي والأوروبي في موسم "الصقيع العربي" لتعيد الوطن إلى ربقة الهيمنة والاستعمار بلبوسات وأساليب غاية في الكارثية والتدمير، مما يدفع بالوطن للبقاء في حالة الصحوة الدائمة والاستنفار الأقصى في معركة الجلاء المتجددة، وإن تبدلت الوجوه والأقنعة، فما أن انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء على دول المحور، ألمانيا وتركيا، حتى اكتشف العرب حجم السراب الذي شربوه، والحفرة التي سقطوا فيها، فكانوا كمن استجار من الرمضاء الحارقة بالنار القاتلة!!.


فقد قدم الحلفاء،  بريطانيا وفرنسا، المنتصرون للعرب هديتين مسمومتين ما زالت الأمة تعالج نفسها من أخطارهما حتى الساعة، تمثلت الهدية الأولى بوعد بلفور القاضي بتقديم فلسطين وطناً قومياً لليهود. والثانية باتفاقية سايكس بيكو التي قسمت بلاد الشام إلى دويلات، حيث وضعت فلسطين والأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني، وسورية ولبنان تحت النير الفرنسي في عملية قرصنة سياسية موصوفة ومدانة تمت تحت دخان كثيف من الخديعة والثأرية دللت عليها العبارتان التاليتان: الأولى عندما دخل القائد العسكري الفرنسي غورو دمشق بعد المواجهة الوطنية التاريخية في ميسلون، والتي استبسل فيها القائد العربي السوري يوسف العظمة، وزير الحربية يومذاك، فكان أول وآخر قائد عسكري يستشهد بين جنوده في التاريخ على هذا المستوى، هرع إلى زيارة ضريح البطل التاريخي صلاح الدين الأيوبي قاهر الفرنجة في معامع تحرير القدس في الحروب الصليبية، حيث ضرب حجارة الضريح بالعصا قائلاً: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»، إشارة إلى اندحار الفرنجة على أسوار القدس، والثانية ظهيرة وصول الجيش البريطاني إلى القدس يتقدمه قائده الجنرال اللنبي، حيث قال على مسمع من جنوده والصحافة المرافقة له: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»، مختصراً بهذه العبارة قروناً من الحقد والدم والثأر بين انتصار العرب بتحرير القدس واندحارهم أمام الاستعمار الجديد، وقد وجد أحرار سورية وثوارها في السهل والجبل والبادية والمدن والأرياف في المقاومة على تعدد سوحها وسلاحها سبيلهم الأقوم لمقارعة الغزاة الجدد وتحرير الديار، فامتشقوا دماءهم سلاحاً، وزلزلوا الأرض تحت أقدام الغزاة حتى تحقق الجلاء الأغر الذي يحتفل به شعبنا هذه الأيام.
فقد تفجرت الثورات التي عمت الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وكان أشرسها وأوسعها انتشاراً في وجه المحتلين الثورة السورية الكبرى عام 1925، التي قادها المجاهد سلطان باشا الأطرش، يعضده ويقاسمه شرف الريادة، ونبل الشهادة والفداء، زعماء وقادة عظماء أمثال الشيخ صالح العلي، وإبراهيم هنانو، وحسن الخراط، وأحمد مريود، وفارس الخوري، وعبد الرحمن شهبندر، في تلاحم أسطوري في معركة الثورة والثأر والكرامة، مع جميع أبناء الوطن.
إن شعبنا الذي أمسى مدرسة قومية متميزة في مقارعة المستعمرين، وكشف غطرستهم، كما أصبح مسطرة في الفداء والوفاء للتراب والتاريخ التراث والقيم العروبية الأصيلة، لن يكون في القادم من الأيام إلا أنموذجاً من الصلابة والعناد والصمود في متراس مبادئه وثوابته الوطنية والقومية مؤمناً بالمقاومة سبيلاً لتحرير الأرض، ومدركاً أن أحفاد المستعمرين اليوم أكثر غدراً وحقداً من أسلافهم.س
 

ولعل أحداث السنة الماضية وما صنعته أيادي أحفاد المستعمرين وحلفائهم من رجعية نفطية، ومأجوري الصهيونية الإرهابية، تشكل قناعة لدى المعارضة المستأجرة والمحمولة لخدمة أهداف المستعمرين باستحالة النيل من صمود سورية مهما ارتفع منسوب نهر التضحيات، وطالت معركة المواجهة، واثقين أن خواتيم النصر لن تكون إلا لشعبنا في تحقيق الجلاء الأكبر والنهائي حيث القضاء على عصابات الإرهاب والانتقال بسورية بإرادتها إلى حيث الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية التي تشكل بوصلة الهداية في المنطقة والعالم.