يا أنــا يا أنــــــــــــــا...

 

هيــام الــــــحموي

 

 

 

"...أنا وياك، صرنا القصص الغريبة..."
والحكايات العادية، وغير العادية حد الغرابة، كلها تبدأ من هنا، من الأنا...


عندما يولد الطفل قد لا يدرك من الحياة سوى حاجات الأنا التي تستنفر اهتمام المحيط المباشر المتمثل في الأم، الأم التي تلبي حاجاته الجسدية من غذاء وعناية، وحاجاته المعنوية من عواطف ورعاية. إدراكه لا يعي سوى أنه مركز الكون، والكل يدور في فلكه، إذا بكى جوعاً، فمن المفترض حسب وعي "الأنا" القاصر لديه أن يحضر الثدي أو تحضر زجاجة الحليب الساخن للحال وعلى الفور، وكيف له أن يستوعب، لمجرد لحظة أو ومضة، أن تكون هنالك اهتمامات أخرى يمكن أن تشغل هذا الكائن "الأم" عن الاهتمام به، وهو الوليد الجديد الذي يمثل في نظر الجميع أمل الحياة وجوهر المستقبل، صحيح أنه لا يعرف أبعاد الفكرة لكنه يشعر بالفطرة منذ ما قبل ولادته أنه يُعامل على هذا الأساس...


تمر الأسابيع الأولى من حياة الطفل الجديد، وبقدر ما يزداد التعلق المتبادل بين هذا الوليد وأمّه، بقدر ما تتطور العلاقة باتجاه ضرورة وجود مسافة بين هذين الكائنين، إذ أن روتين الحياة اليومية يذهب باتجاه نوع من تحديد مكان ومكانة كل منهما، فالأم لديها مهام أخرى، هنالك الزوج وربما أطفال آخرون، ثم الأسرة بمفهومها الأوسع، والصداقات، والعلاقات المهنية، واللائحة تطول، ومرة بعد مرة لا يعود بكاء الصغير مجدياً، ولا حتى صراخه أو أنينه وعنينه إلى ما لا نهاية... هنا ينفتح جرح الأنا الأول، وهنا أيضاً يتبين أن الكائنات ليست متساوية في قدرتها على مداواة هذا الجرح أو علاجه وشفائه.

 


بعضنا لا يُشفى، فتظل الأنا لديه جريحة، يصبح بالغاً راشداً وقد يبلغ من سن الرشد عتيا، لكنه يبقى باحثاً عن إثبات ما يعتبر أنه لحق به من ظلم لأناه الأولى، ساعياً لأن يحمّل مسؤولية هذا "الظلم" لكل من حوله ولكل ما حوله. الآخرون مقصّرون مهما فعلوا، وكلما قدموا المزيد من التنازلات لإرضائه، نجده يعتبر الأمر اعترافاً إضافياً بظلمهم له، ويتمادى في طلباته التي يمكن أن تصل إلى حدود اللامعقول...


من منّا لم يضبط نفسه غير مهتم بما يقول محدّثه أو محاوره إلا من خلال جملة أو فكرة تعنيه شخصياً فتسمح له بمقاطعة المحاور ليُدلي بدلوِهِ، قائلا: "هذا فعلاً ما حدث لي..." ويبدأ بسرد قصته من دون أن يترك للآخر فرصة إتمام حديثه، أو تكون المقاطعة لمجرد المعارضة والتأكيد على أن "الأنا" المتحدثة هي التي يجب أن تتفوق حتى ولو عارضت ثم عادت وكررت ما سبق وقيل للتو، على مبدأ أن هذه الفكرة لا قيمة لها إلا إذا كانت صادرة عن "أنا"ي الخاصة الشخصية الذاتية، وتفقد أهميتها إذا صدرت عن "أنا" أي أحد آخر.


طريف أن نلاحظ في اللغة الانكليزية، أن كلمة "أنا" تأتي بثلاثة مدلولات ولكلّ منها مفردة مختلفة، هنالك مثلا ego بمعنى “الأنا الذات” كما في العلوم النفسية، وكلمة me بمعنى الأنا وسط الجماعة، إن صح التعبير، و”I “ الدالة على الضمير المتكلم، ولا يسعنا إلا أن نلاحظ أيضاً أنه ضمير “متألم”، بما أننا نسمع لفظ الكلمة وكأنها تعبّر عن الألم: “آي”، وكأنها الأنانية المتألمة دوماً للمتكلم والمؤلمة على الأغلب للمخاطَب... مما يذكرنا بتعريف لصفة الشخص الأناني، والتعريف ورد على لسان شخص أناني آخر إذ قال: “الأناني هو الشخص الذي لا يتحدث عني”!!! بدلاً من القول إن الأناني هو الشخص الذي لا يتحدث إلا عن نفسه...


الأغرب من كل ما سبق أن كلمة “الآخر”، ولكثرة ما جرت على الألسن في هذه المرحلة، أصبحت تبدو وكأنها باهتة مستهلكة وفاقدة للبريق، في حين ما تزال كلمة “أنا” بكامل ألقها وتألقها في كل المناسبات، إعلامياً وتحاورياً وتشاورياً، وربما كان يليق أكثر بهذه الزاوية أن تحمل عنوان الأغنية الفيروزية الأخرى:

 

“ما شاورت حالي”...
يبدو أنه صحيح “طاوشني خلخالي...”
الله يستر...