يا ريت ... شي بيت أبعد بيت...

هيام حموي. البعث
الثقافة هي ما يتبقّى بعد أن تنسى كل ما تعلّمتَهُ في المدرسة"..تُنسب هذه المقولة للمغفور له (ربما، والله أعلم!!!) ألبرت أينشتاين، ويحلو للبعض استعادتها كلما تجلّت خيانة الذاكرة بفعل الإرهاق أو بمجرد مرور السنين على الذهن كحالة معنوية، أو على الدماغ كحالة عضوية.
تلك الأفلام البديعة التي كنا شاهدناها في الصالات السينمائية، قبل زمن التلفزيون، وبقيت منها مشاهد مؤثرة فعلت فعلها في وجداننا، حتى وإن كنا نسينا ما سبقها وما تلاها، أو تلك الروايات التي كنا تعلّقنا بها في سنين المراهقة حين كانت مكتبة الحي "تؤجّرنا" الكتب للمطالعة لقاء مبالغ زهيدة نسبياً، تتفاوت حسب شهرة الكاتب أو وفق عدد الصفحات ومدة الاستعارة المأجورة، وبقيت من قراءتنا النهمة لها بضع عبارات وجمل عالقة في الذاكرة، نكتشف مع مرور الوقت مدى تأثيرها العميق فينا.
سينمائياً، لطالما طاردت المخيلة، وبإلحاح، تلك الصورة التي يستحضرها اللاوعي أوتوماتيكياً، كلما ازدادت وتيرة المصاعب، خصوصاً حين تجرّ معها أحياناً المصائب، على الصعيدين العام والخاص، في واحدة من المراحل الكثيرة التي لا بد أن يمرّ بها الكائن الحي، يدفع فيها ثمناً يبدو باهظاً من المآسي والدموع، مقابل لحظات سعادة غامرة كانت قد مرّت به، وبدا له، من فرط السعادة، أنها مرّت سريعاً. الصورة الملحّة هي لقطة من الفيلم الشهير "الدكتور جيفاكو"، المأخوذ عن الرواية الأشهر للكاتب الروسي بوريس باسترناك، وكان قد نال عنها جائزة نوبل للآداب في العام 1958، واضطر للتنازل عن هذا التكريم الأدبي الرفيع لأسباب يطول شرحها. يبدو في الصورة المُشار إليها النجم العربي الذي صار عالمياً، عمر الشريف، في شخصية جيفاكو، وقد اضطر للسير على الأقدام مسافات طويلة عبر مساحات شاسعة يغطيها الثلج ببياضه اللاذع اللامع، هارباً من قدر لئيم، متدثراً بمعطف رثّ، وتعلو رأسه قبعة يفترض أنها تقيه من شتى الإصابات، لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو قطرات الصقيع المتجمّع على جوانب لحيته وعلى الشارب الكثيف تحت أنفه، وعلامات بؤس عميق، يصعب وصفه، تغمر بالحزن نظرات عينيه، وقد تجمّدت الدموع في مآقيه.
لدى رؤية ملامح الشقاء الإنساني على وجه النجم الكبير في دور "جيفاكو"، تبادر حينها إلى الذهن السؤال الطبيعي: ما الذي يدفعه إلى مواصلة السير؟ أظن أنني لو كنت مكانه، لاستسلمت على الفور، ما الذي يضطرني إلى تحمّل كل هذا الأسى؟ ويأتي الجواب من الكبير المرافق عند حضور الفيلم في تلك السنوات البعيدة: "إنها غريزة البقاء".
"غريزة البقاء" أيضاً كانت هي الإجابة الجاهزة لدى محاور حكيم آخر عند سؤاله عن سر تمسّك الصياد الكوبي العجوز "سنتياغو" بالسمكة (رمز الحياة؟)، في رواية "الشيخ والبحر"، وإصراره على العودة إلى الشاطئ بصيده الثمين بعد 84 يوماً من الانتظار، وعلى الرغم من كل الويلات البحرية والأنواء التي واجهته.
عن هذه القصة، نال الكاتب الأميركي أرنست همنغواي جائزة نوبل للآداب في العام 1954، في حين اعتبره نقّاد كثر أشهر كاتب أميركي على الإطلاق في القرن العشرين.
لكن المفارقة التي تكاد تلغي منطقية فكرة "غريزة البقاء" عند همنغواي هي قصة انتحاره (المزعوم؟ ربما!)، إذ كيف لمن وصف بأدق التفاصيل تفوّق الصياد العجوز على كل مآسيه، فعلاً.. كيف له أن ينهي حياته صبيحة ذلك الأحد الصيفي من العام 1961، بطلقة بندقية في رأسه؟.
بعد مرور ردح من الزمن، تم الكشف عن بعض الأسرار، وإذا بمصيري الكاتبين يتقاطعان في بعض النقاط المتشابهة عبر المسيرة الحياتية والأدبية لكل منهما: كلاهما كتب أنشودة عشق للحياة، فنال عنها أرفع الجوائز الأدبية، كلاهما تعرّض لاضطهاد أجهزة الرقابة في بلاده، باسترناك من قبل الـ "كي جي بي"، كونه اعترض على ممارسات ستالين، فرحل عام 1960 بعد صراع مع السرطان الفتاك، وهمنغواي من قبل الـ "إف بي آي"كونه كان قريباً من كوبا ودافع عنها، وقد نشر أحد أصدقائه رسائل تؤكّد أنه دُفِع به إلى الانتحار.
كما بدأنا بقول مأثور، ننقل عن باسترناك عبارته الشهيرة: "وُلد الإنسان ليعيش لا لكي يستعد ليعيش"، وعن همنغواي خلاصة فلسفته: "يمكن تدمير الرجل، لكن لا يمكن هزيمته".
ماذا لو أن الرجلين كانا اجتمعا؟ وبحضور ميكروفون إذاعي؟ يا ريت... وبأبعد بيت!!.