يا زهرة في خيالي...

لوحة "هذا ليس بغليون" للفنان البلجيكي الشهير رينيه ماغريت

 


هيام حموي. البعث

"الأمير الصغير"... نعود مجدداً إلى شخصيته الآسرة في الكتاب الفرنسي الأشهر الذي يحمل اسمه، والمترجَم إلى شتى لغات العالم، ولا يزال قراؤه حائرين، يتساءلون بين الحين والحين، عما إذا كان المؤلف الطيار الحربي أنطوان دو سانتيكزوبيري شاء أن يخاطب براءة طفولتهم الكامنة أم يتوجّه إلى وعي رشدهم البالغ العاتي والموغل في العفوية الطفولية بعدما دار النضج دورته الكاملة واستقر من جديد في نقطة الصفر والعقل والبداية.


نعود إذاً إلى السطور الأولى من الكتاب المذكور، حيث يدهشنا إلحاح الأمير الذي لا عمر له، والقادم من كوكبه البعيد، مطالباً الضابط الطيار بأن يرسم له خروفاً..
يزعم المؤلف المبدع أدباً ورسماً أنه لا يجيد الرسم بدليل أن الطفل اللحوح انتقد "خربشاته" التي حاول من خلالها تلبية رغبة "صاحب السمو الروائي"، فما كان منه، بعد نفاد صبره، إلا أن رسم له صندوقاً مستطيلاً وجعل ثقوباً على جوانبه تسمح بالتنفس، وقال لمحدّثه: الخروف الذي تريده موجود داخل الصندوق... فتهلّل وجه الطفل فرحاً، يقول الكاتب، فنفرح معه، لكن ندخل في حالة تأمل طويــــــلة.

 

لكم نحن بحاجة إلى تفعيل مخيلتنا، سواء للخلاص من مآزقنا التي تحشرنا الحياة في زواياها المعتمة أو المضيئة، وأيضاً للشعور بالرضا عندما لا تتحقق رغباتنا كما نطمح ونتمنى.. كم من ناقد قادر على أن يشرح لقرّائه مهمة الفن والشعر؟ وكيف أن لبعض الكلمات القدرة على إشعال شرارة أمل في ظلمات اليأس المعشّش في النفوس من مجرد مجاورتها لكلمات أخرى ما كان يجمعها بها سوى موهبة شاعر فذّ، أو يد رسام عبقري هداه حدسه إلى ضرورة جمع رمزين بصريين متباعدين، أو حتى المزاوجة بين صورة وكلمة، كما فعل الفنان البلجيكي الشهير رينيه ماغريت الذي يُعتبر من أبرز رواد الحركة السريالية، فقد عمد في لوحته الأشهر "هذا ليس بغليون"، إلى تصوير غليون حقيقي، لكنه أضاف العبارة الآنفة الذكر والتي أصبحت عنوان اللوحة، وبما أن الرسم ليس فعلياً هو الغليون، فقد جاءت الكلمات لتحقق الفكرة الصادمة التي تنبّه إلى خداع الصورة وخيانة رموزها إذا لم يأخذ المتلقّي الاحتياطات اللازمة تحسباً من الوقوع في فخّها.
 

كانت هي متأثرة بالفكرة السريالية فناً وأدباً بحيث أنها، وعندما طلب منها صديقها أن تعبّر عن مشاعرها في تلك الأمسية الربيعية الخلّابة، وفيما المساء حنون، يذكّر بأغاني الزمن الجميل وصوت الأطرش الفريد يدور في ذهنها مردداً: "كان القدر راضي علينا حنون، كان القمر جماله يسبي العيون، إلخ..." أمسكت بالقلم الملون والورقة البيضاء ورسمت كوخاً متواضعاً وشجرة صفصاف وسوراً خشبياً هشّا بلا حول ولا قوة، ما من مبرر له سوى جمال خطوطه، ثم صوّرت هلالاً في السماء وأطلقت ضحكة مجلجلة أثارت الهلع في نفس نديمها، وعندما استفسر عما أدخلها في حالة الضحك الهستيري، مرّ بعض الوقت قبل أن تلتقط أنفاسها وتريه ما كتبت على زاوية اللوحة، والسهم يدلّ على الهلال في السماء: "هذه ليست بموزة!!!"، ثم حدثته عن لوحة الرسام السريالي البلجيكي ماغريت وعن مغزاها وعن الخيال.
 

 

وبعد دقائق من الصخب الضاحك، استرجعت سكينتها، وعادت الذاكرة لتفسح المكان لتلك القصيدة التي استطاع بواسطتها شاعر طفل آخر، على حدود السريالية، أن يهز أحاسيس أجيال وأجيال من عشاق اللجوء إلى الخيال، جاك بريفير الذي اقترح على هواة الشعر طريقة مبتكرة لرسم عصفور، إذ يقول:
"أولاً نرسم قفصاً ونترك بابه مفتوحاً، ثم نصوّر داخل القفص شيئا يحبه العصفور، شيئاً حلواً وبسيطاً ونافعاً للعصفور، ونعلّق اللوحة على شجرة، ثم نختبئ خلفها صامتين دون حراك، وننتظريوماً، أسبوعاً، أسابيع، سنوات، سيأتي العصفور حتماً في يوم من الأيام، حتماً سيأتي... وحالما يدخل القفص نخرج من مخبئنا ونرسم بابَ القفص، ثم نرسم شجرة ونختار أجمل أغصانها ليتدلى منها القفص، ونرسم أيضاً أوراقاً خضراً وأشعة شمس كي يفرح الطائر... ونبدأ بمحو قضبان القفص مع مراعاة عدم المساس بريش العصفور، وننتظر...
 

إن لم يصدح العصفور فتلك علامة إخفاق اللوحة، لكن إذا غرّد وزقزق.. فاللوحة ناجحة، حينها فقط يحق لنا أن ننتزع برفق شديد ريشةً من جناح العصفور، لنوقّع باسمنا في ركن اللوحة السفلي."