يتقدَّس.. وقد يتألّه

 
 
 
نبيل سليمان - بلدنا
 
 
 
«الدكتور دوڤالييه عملاق بمقدوره أن يكسف الشمس».
 
بهذه العبارة تحدَّث عن نفسه ديكتاتور هاييتي الراحل فرانسوا دوڤالييه. وبمثل هذا الفعل المعجز (كسف الشمس) تقدَّس الديكتاتور حتى بلغ درجة التألّه. وقد أسعفه في ذلك دين (الڤودو) المتأصِّل في الروح الهاييتية، وهكذا تحوَّلت الصلاة التوراتية لتصبح الصلاة الجديدة الثورية:
«دوڤاليينا الذي في القصر الوطني إلى الأبد، لتقدس اسمك الأجيال الحاضرة والقادمة, لتكن مشيئتك كما في الأقاليم كذلك في بورتوبرانس (العاصمة), أعطنا اليوم هاييتي الجديدة ولا تتسامح مع تجاوزات اللاوطنيين الذين يبصقون على بلدنا».

 


ولكن، لماذا نذهب بعيداً إلى تلك البلاد، بينما يصطخب في ماضينا، كما في حاضرنا، تقديس الديكتاتور، أياً كان اسمه أو لقبه؟..

 

وحسبي أن أسوق من غرر الماضي ما قاله جرير في عبد الملك بن مروان: «اللهُ طوقك الرئاسة والهدى/ والله ليس لما قضى تبديلُ/ وَليَ الرئاسةَ والكرامةَ أهلُها/ فالملْكُ أَفْيَحُ والعطاءُ جزيلُ».
 
وليس يخفى أنَّ كلمة «الرئاسة» حلّتْ محلّ كلمة الخلافة في هذين البيتين. وبعد تكرار لعبة التبديل هذه، دون الإخلال بالوزن، نقرأ لجرير نفسه في الخليفة نفسه: «واللهُ قدّر أن تكون رئيسنا/ خير البرية وارتضاك المرتضي». كما نقرأ لجرير ما قاله في الوليد بن عبد الملك: «ذو العرش قدّر أن تكون رئيسَنا/ مُلّكتَ فاعلُ على المنابر واسلمِ». ومثل ذلك قول كثيّر بن عبد الرحمن: «وما الناسُ أعطوكَ الرئاسةَ والتقى/ ولا أنت، فاشكره يثبْكَ مثيتُ».
 
وقد أضفى الفرزدق مثل هذه القداسة وهذا التقديس في مخاطبته الوليد بن عبد الملك نفسه: «حباكَ بها اللهُ الذي هو ساقها/ إليكَ فقد أبلاكَ أفضلَ ما يبلى». أما الوصول بالتقديس إلى التأليه، فهو ما خاطب به ابن هانئ الأندلسي الخليفةَ الفاطمي المعزّ لدين الله: «ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ/ فاحكمْ فأنتَ الواحد القهار». ومن ذلك أيضاً ما قاله الشاعر نفسه: «ندعوه منتقماً عزيزاً قادراً/ غفّار موبقةِ الذنوبِ صفوحا».

 

في غير الشعر، أقصد في الرواية، يلتمع تأليه الديكتاتور وقداسته في الحاضر العربي الزاهي. ففي رواية مؤنس الرزاز (متاهة الأعراب في ناطحات السحاب) يعلن الجنرال ذياب أنه الجنرال آدم الواحد الأوحد الذي لم يكن قبله إلا العدم، كما يجلجل: «أنا الأول أبو البداية والنهاية أو جدكم جميعاً».
 
وفي رواية خيري الذهبي (فخ الأسماء) يتلقب الديكتاتور بسيد العالم ومركع الإنس والجن، فلا يكفيه أنه قرين النبي سليمان والنبي داود. وفي رواية واسيني الأعرج (المخطوطة الشرقية) يتضرَّع الناس للديكتاتور (الملياني) كإله، مثلما يتضرَّع له فقيهه بقوله: «سبحانك يا سيدي العالي».
 
وهذا الديكتاتور يخاطب الناس وهم يبايعونه: «لقد أتممت عليكم نعمتي». وحين دالت دولته، ودقَّت ساعة ابنه ووريثه بعد خمسين سنة، جلجل صوت الديكتاتور المنتظر: «سأكون إله هذه الدنيا السائبة» وجلجل: «أنا ربكم الأعلى».
 
أما في رواية حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر) فتبشِّر وحوش الشرق ووحوش الغرب بميلاد سليل الآلهة ورسول العزة الإلهية، الديكتاتور القادم الذي تتضرَّع له العامة: «أبانا المذهّب كنور الشمس، ليتمجّد اسمكَ العظيم، وليخلدْ نور بهائك الخاطف للأبصار (...) أيها القدوس الأبدي آمين».