يوسف عبدلكي .... الحفار المغترب.. العائد

يوسف عبدلكي... الحفار المغترب.. العائد
سهير الذهبي - شام نيوز
عندما تدخل صالة عرض لمشاهدة لوحات يوسف عبدلكي الغرافيكية المتشحة بالسواد, تشعر برهبة وضيق وخوف وصمت لاحدود له .. تنتقل اليك هذه المشاعر مباشرة من روح يوسف العابقة في لوحاته , ربما بسبب ربع قرن من الغربة والتوهان في شوارع باريس معظمها بلا جنسية وبلا جواز سفر, وربما بسبب عشق تملك روحه ولم يغادرها الا بعد ان ترك سوادا ما في احدى زوايا قلبه... وربما ايضا بسبب حزن يعيشه رغم كل هذا الانجاز , ورغم قوة البصمة التي يتركها دائما وفي كل عمل جديد ينجزه.
في مدينة القامشلي, تلك المدينة السورية النائية ولد الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي عام 1951 ..
"ولدت في القامشلي، ولهذا حيزي الخاص هو المكان الذي ولدت فيه، وولدت فيه مفاهيمي، وعواطفي، وطريقة حبي، وكيف أرى البشر والعالم والفكر، وبالتالي هذا هو حقك كانسان -حقك في انتمائك للوحتك أو لقصيدتك أو روايتك..... كما أن نشأتي في أسرة تتعاطى الفن والإبداع والسياسة, ساهمت في رسم ميولي مبكرا، فوالدي وابن عمي الأكبر المعماري يوسف عبدلكي –ولنا الاسم الأول ذاته- هو الآخر من عمالقة فن العمارة الحديث في سوريا صمم مساجد شهيرة وله بصمة معمارية خاصة....".
يوسف عبدلكي الفنان المتمرد الحالم الجامح الرافض للقيود و الباحث ابداً عن عوالم غير مكتشفة في الفن التشكيلي أقام أول معارضه الفردية عام 1973 في دمشق ، كما أقام العديد من المعارض في تونس والقاهرة والأردن وبيروت والشارقة ودبي...، ويقتني المتحف البريطاني في لندن أربعة أعمال له , ومتحف معهد العالم العربي في باريس عملين, ومتحف دينه لي باين بفرنسا عملين.. كما يقتني متحف الكويت الوطني أربعة من أعماله, في حين يقتني متحف عمان للفن الحديث عملاً له.
اشترك في تظاهرات للرسوم الساخرة في كابروفو في بلغاريا وكنوك هيست في بلجيكا وفي كندا وكوبا وفرنسا وإيطاليا وتركيا والبرتغال. وله دراسات عديدة منها تاريخ الكاريكاتور في سوريا عام 1975 , ودراسة عن رسامي الكاريكاتير العرب عام 1989.. وكان بدأ عمله في الكاريكاتير منذ سنة 1966م، ورسم في كتب للأطفال وفي مجلات للأطفال وشارك في عدة تظاهرات للرسوم الكاريكاتورية.
غادر دمشق إلى باريس وفي جعبته إجازة كلية الفنون الجميلة بدمشق حصل عليها عام 1976..... واكمل هناك علومه في الفن وحصل على دبلوم في الحفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون بباريس عام 1986..... وأتبعه بدكتوراه في الفنون التشكيلية من جامعة باريس الثامنة عام 1989....
."باريس مكان في منتهي الزخم علي صعيد الخبرات التي يمكن أن تمنحها إياي, من خلال متابعتي للمعارض والمتاحف, لكن في الوقت نفسه لا تمنحك هذه المدينة العصرية أي متنفس لأشيائك الخاصة الحميمة.... في الحقيقة، أتعامل بنوع من الانفصال بيني وبين باريس, حتى أقدر أن أعمل شيئا خاصا وذاتيا وشخصيا, لذلك عندما أفتح الباب وأذهب إلي مرسمي، أدخل إلي ذاتي وأغلق الباب على ما هو في الخارج الذي هو المدينة – باريس , التي يسكن فيهاثلاثة عشر مليون شخص..... هذا الانفصال يتيح لي فهم ما يمكن أن نسميه أسود يعنيني, ورمادي يعنيني, وضوء يعنيني, وكأس مرمية في فراغ.. تعنيني أنا....".
في لوحاته يلمح عبدلكي ولايصرح مستعينا بمفردات من حياتنا اليومية شديدة العادية, ولكنها فجأة تتحول على اسطح لوحات هذا الفنان الى مفردات مبتورة عن واقعها , مرسلة بإشارات صارخة في معانيها ومرعبة في عزلتها ومهيبة في جمالها... غصن , رأس سمكة , يد مبتورة , حذاء , مسمار , حبات فاكهة .. هذه هي أدوات يوسف في التعبير ... موهبة فذة يمارس فيها هوايته في عزل الاشياء واخراجها عن مألوفها, والاصرار على تجريدها وتجريدها الى درجة من الفجاجة الصادمة التي لا يمكننا معها الا أن نقف صامتين .. وخائفين.. ومدهوشين امام هذه الواقعية الاشتراكية ان صح التعبير , وامام بحثه الحثيث عن الطوباوية.
"أرسم تلك الأشياء المعزولة عن محيطها بطبيعة صامتة رغم أصوات الحديد والنار والصمت التي تخرج منها، أصنع من هذه العناصر مسرحاً بصرياً يحمل أبطاله الواقع والامل.. أحذية وزنابق وجماجم وفجل وعظام بشرية… يمثل كل منها لوحة تتراوح بين أقصى الضوء وأقصى الفحم، يصوّر من خلالها بلداناً تتراوح بين أقصى الظلم وأقصى اللجم. فالوردة والديك والحصان والسمكة عناصر متكررة ملايين المرات بتاريخ الفن منذ أيام الكهوف، الأهم كيف ترسم السمكة؟ أي دلالة تعطيها؟، بالنسبة لي السمكة تشعرني بالقدرة على تحدي الموت، فاتساع حدقتيها ولمعة حراشفها تشعرك أنها حيّة رغم معرفتك بموتها، تنظر إلى العالم المحيط بعينيها الجاحظتين وتقف بين الحياة والموت وتتحداهما، العنصر الجاذب لي من حيث المعنى، إنها طاقة تعبيرية كبيرة وقادرة على الإيحاء المتجدد وهي تختلف من وقت لوقت حسب درجات النور، لذا أراها عنصراً غير قابل للاستنفاذ، يمكن أن يقضي الفنان كل عمره في العمل عليها، وأنا أعمل عليها منذ أكثر من عشر سنوات ولم تستنفد ولن تستنفد...".
يوسف عبدلكي اليوم من أشهر فناني الحفر العرب والعالميين، ومن أبرز فناني الغرافيك وتصميم الملصقات والأغلفة، والشعارات، كما يعدّ من الفنانين المهمين في مجال الكاريكاتير.
خلال عيشه في باريس استمر عبدلكي في اقامة معارض في دمشق كان اخرها في خان اسعد باشا.
"من سنوات طويلة في الحقيقة أعمالي كانت تذهب إلى الشام وتعرض في جاليرياتها، وأنا جالس في باريس… كنت أشعر كما يشعر المسافر الذي يرسل للبلد، ولأهله وأصحابه في البلد، تماما كما يرسل رسالة لمن يحبهم، رسالة يقول لهم فيها: «إنهم موجودون معه، وإنهم –بشكل أو بآخر- العصب تبع كل شغله، وانه هو في الحقيقة معهم هناك في البلد....".
وبعد ربع قرن من الحياة الباريسية المشتاقة الى الوطن, قرر عبدلكي العودة إلى دمشق، في التاسع عشر من نيسان 2005.. ترافقه زوجته السينمائية هالة عبدالله وابنته ليلى..... هذا التاريخ شكل منعطفا هاما في حياة هذا التشكيلي, الذي طالما اعتبر انه عاش في باريس جسدا.. لكن قلبه وروحه كانا دائما في دمشق.
"عندما أخذت قرار العودة انتابني إحساس إنني على شفير إنهاء حقبة ثالثة من حياتي. الأولى كانت منذ ولادتي حتى عام 1966 في القامشلي، والثانية حتى عام 1981 في دمشق، والثالثة منذ ذلك التاريخ حتى 2005 في باريس..... يأتي قرار العودة وأنا أحس أن جعبتي مملوءة على رغم ان ذلك ليس إلا وهماً. فأشواق الإنسان أكبر من كل حصيلة, وقدرته على المعرفة أصغر من أي جزء من فنون العالم.. هذا لا يمنع أن هذا الوهم يتملكني اليوم، وأنا أهيئ نفسي للسفر إلى دمشق. على صعيد آخر هذه لحظة عاطفية استثنائية بالنسبة إلي لأنها تشكل عودتي إلى المدينة التي تشكل فيها وعيي الثقافي وحسمت فيها خياراتي المهنية، وفيها صنعت أهم علاقاتي بمجتمعي في مرحلة الشباب...".
يوسف عبدلكي اسم كبير في عالم الفن التشكيلي السوري و العالمي. كان و لازال ثورياً متمرداً في فكره و فنه....
"الزمن هو الحكم العادل .. فالاعمال الفنية التي كانت متألقة في القرن الثامن عشر باتت اليوم منبوذة لحساب لوحات فنية كانت منبوذة وأصبحت اليوم متألقة وتتباهى بأصالتها. ولذلك فإن الزمن كفيل بالحكم على عمل فني أكثر مما يحكم عليه في اللحظة المباشرة. فعلى سبيل المثال قد تثير لوحاتي إعجاب الكثيرين اليوم والعكس صحيح بعد تقادم الزمن، وكل شيء وارد".