يوم فقدنا التوازن

وليد إخلاصي - بلدنا
نادراً ما كنت أعود إلى شيء كتبته بعد طباعته في كتاب أو صحيفة أو مجلة, وخلافاً لما كتبته طوال عمر مغامراتي الأدبية، كنت أعيد كتابة أعمالي لأكثر من مرة, والدافع إلى ذلك هو حرصي على عدم تكرار نفسي أو وقوعي في فخ ما قرأت لغيري. وبظني أن رهاب الإتقان لازمني بشكل دائم .
وفي تلك الفترة الماضية من الأيام الصعبة التي مرت على الوطن, توقفت عن الكتابة والعثور على أي موضوع يصلح لرواية أو قصة أو مسرحية نتيجة توقف مخيلتي وعجزي عن الكتابة التي أظنها إبداعية بسبب الأحداث المريعة التي جثمت على صدر الطمأنينة في سورية تهدد أمنها. وهكذا سحبت أوراق اعتمادي من بلاط الإبداع .
وفجأة في تلك الفترة، خرقت قاعدة ابتعادي عن النصوص المنشورة في كتاب لأقلب صفحات مجموعتي القصصية «الدهشة في العيون القاسية « لأتوقف عند قصة فيها حملت عنوان « يوم فقدنا التوازن ».
القصة كتبت في أول السبعينات من القرن الماضي . وصورت المبنى الحكومي الذي عمل فيه الراوي, وقد قام العمال بإصلاح أساسات البناء وتدعيمها, فكان أن حفر خندق أمام البناء. وهكذا اضطر الموظفون إلى تجاوز ذلك الخندق عبر ممرات خشبية.
وأما الراوي فقد كتب عليه السقوط في مياه الخندق العميقة منتظراً أن يمد أحد له يد المساعدة للخروج من ورطته. وفي آخر القصة هتف الراوي: « وإلى متى سأبقى هكذا في مثل هذه الحالة من التوازن المقرف. وكان التعب قد نال مني حقاً ، وبدأ الخوف يتسرب إلى داخلي خشيه كبوه مفاجئة أنام فيها فأسقط أكثر وأكثر «.
ولم يكن من هدف للقصة سوى الخوف المتعلق بالتوازن الاجتماعي الوطني والذي كان المبنى الحكومي يدل عليه كإشارة على أهمية المؤسسات في السلطة بناء ومعنى، والتي هي جوهر الحياة الاجتماعية في الوطن المستقر والمتمتع بالأمان والطمأنينة. فهل كانت القصة دليلاً على تخوف الراوي من أي حدث دخيل على الوطن ؟.
في ثمانينات القرن الماضي هز البلاد، وليس نظام الدولة فقط، ما كان يخطط لها من فوضى. وفي بداية العقد الثاني من القرن الحالي دخلت الفوضى في دائرة الجدية بالجدية التي أسهم فيها التآمر الإعلامي المبرمج لأكثر من دولة في العالم، وكان ذلك الإعلام الذي يشغله الهم الإسرائيلي، مع اقتراب موعد انسحاب الاحتلال الأمريكي من العراق. ومن طرف آخر، لا يجوز لنا أن نتجاهل ذلك الاختلال في البنية السورية, علماً بأن ما يحدث في هذا الاختلال لا يعادل في الحجم تلك الفوضى الخلاقة في البلاد والتي نفخت فيها الروح الشيطانية الخارجية مؤججة النار في أوصال الوطن .
وأعود إلى القصة القصيرة متسائلاً، إن كانت تدل على تشاؤم أو تخيل أو أنها نوع من وساوس التخوف. وأقول إن الفكر السياسي يستمد وجوده من النوعين ؟ ومع ذلك، فإنني لا أنتمي إلى هذا الفكر, وإن كان أي كاتب أو أديب لم يبتعد يوماً عن أنواع الهم السياسي ولو كان غير منغمس في الفكر السياسي .
لقد فرض علينا, ونحن أبناء هذه المنطقة من العالم بشيء من لعنة الجغرافيا, نوع من المشاعر يقوم بتوجيه أفكارنا وأحاسيسنا نحو الخوف من المستقبل متمازجاً مع الإيمان به, وبنوع من النقد اللاذع للمجتمع مع وقوعنا في حبه.
وخلاصة القول، أن واقع الناس من أدباء وفنانين وسياسيين يمكن أن يوصف بأنه نوع من انفصام الشخصية، إلاّ أنه ما كان له أن يبتعد يوماً عن التأفف المقرون بحب الوطن.