يوم كان العيد فرحاً صافياً والأسرة بحجم القبيلة

تيسير أحمد- شام نيوز

 

 

يحاول الدمشقيون الحفاظ ما أمكنهم على تقاليد العيد التي توارثوها من الأسلاف، ولكن إيقاع الحياة المعاصرة تبدل وظروف الأسرة تغيرت، إذ كانت الأسرة قبل ردح من الزمن كبيرة أشبه بالقبيلة .. فهي تضم الأم والأب والأخوة والأعمام وزوجاتهم وأولادهم والعمات والجدة والجد الكبير ..كلهم يأكلون من طبخة واحدة .. وكل فرد يعمل عملا يوكله به رب الأسرة الكبير .. وهو الذي ينفق ويطعم ويتصرف. ولذلك كان للعيد طعم مختلف، لا يشعر به الناس اليوم.

ومع ذلك بقيت في دمشق القديمة بعض الأماكن التي يلمس فيها المرء بقايا تقاليد العيد بعد رمضان، ولعل أهمها الميدان وسوق الحميدية وسوق الطويل وبعض شوارع الشاغور.

 

 

الاستعداد للعيد

 

يقول الباحث الدمشقي منير كيال: كانت الاستعدادات للعيد في دمشق تبدأ خلال أيام العشر الثاني من شهر رمضان فهو على حد قول العامة ( للخرق) أي لشراء كسوة العيد , فترى الأسواق كل حسب اختصاصها مزدحمة بالمشترين لشراء الملابس والأحذية الجديدة للأطفال وعامة القوم , حتى أنك لتجد من لم يعرف إلا الخلق من الثياب طوال عامه يرتدي في العيد الأجواخ وحرائر الديما والألاجه والصرمة بحيث أنه كان يعدّ العدة لها قبل العيد بأشهر, وإذا ما حل العشر الأخير من الشهر انهمكت النسوة ( بصر الورق) لإعداد حلوى العيد, وخاصة المعمول المحشو بالجوز أو الفستق الحلبي وكذلك التويتات والكرابيج والسنبوسك.

فقد كان كل موسع عليه في الرزق يضع مائدة ملأى بالحلويات المذكورة وإلى جانبها أطباق الناطف .. وفي ركن من المضافة منقل نحاسي متوهج بلونه الأصفر وبجمرات الفحم المتقد , وقد غرس في جانب منها مصب القهوة العربية السادة ( المرة ) .. ويطعم من تلك الحلوى ويحتسي من تلك القهوة كل معايد.

 

 

ليلة العيد

 

وفي ليلة العيد قلمّا ينام أحد, وقد كان يسبق هذه الليلة البشائر وتصل بشائره من ليلة ( 27 ) رمضان , فترى المدينة ارتدت حلة قشيبة من الأنوار تنير المآذن والمساجد والطرقات, فينقلب سواد الليل إلى نهار وتنفرد البسطات في كل مكان وأمامها وقف الباعة يدللون على بضاعتهم بما يرغـّب من العبارات ومما يبعث بالنفس الرغبة في الشراء, ولكل بائع لحن خاص ورنة خاصة. فيتحول سوق الحميدية والحرير والقيشاني إلى بحر متلاطم من البشر, تتزاحم جموعه أمام البسطات وفي المحال التجارية مما لا يسمح للعابرين شق طريقهم إلا بشق الأنفس. كما يزدحمون على الكواء والخياط والخباز واللحام, وتذبح الخرفان في الطرق والساحات.

 


أما سوق البزورية فيحيي تلك الليلة وما يليها حتى العيد لتلبية طلبات القوم من الملبّس وراحة الحلقوم وما قد ينقصهم من سمن ورز وسكر وسواه ..

وما أن تعلن البشارة من مجلس القاضي في الجامع الأموي .. حتى ترى دمشق قائمة على قدم وساق , فترى القلابات والدواخات نصبت في كل مكان في مصلبات الأحياء ( ساحاتها ) العامة وأطراف البساتين.

 

 

فجر العيد

 

وفي فجر العيد ينهض القوم كل إلى مهامه ، النساء يهيئن المضافة (قاعة الاستقبال) ويمددن أسمطة الحلوى ويوقدن الفحم في المناقل ويرقدن القهوة السادة ويعددن طعام العيد .. أما الرجال فيتوافدون إلى المساجد مبكرين مهللين فتهدر الأصوات بالتكبير والتهليل والصلوات والدعاء حتى إذا ما تمت صلاة العيد ، صعد الخطيب إلى المنبر يحدث القوم في أمور دينهم ودنياهم ويحذرهم مغبة ترك الأولاد على سجاياهم في المأكل والتجوال، خوفاً من النوايا السيئة، طالباً إليهم الاستمرار في خلق رمضان وروحه فإذا ما انتهى الخطيب، تلاقت الأكف وشدت على بعضها مهنئة مباركة متوسلة إلى الله أن يعيده على الأمة بالخير والبركة، ثم ينطلقون إلى المقابر للقيام بزيارة الموتى ولا ينسى رب الأسرة أو كبيرها بطبيعة الحال ابتياع أغصان الآس ، فيزينون شواهد القبور حتى انك لترى تلك القبور لبست من الآس حلة خضراء وبعضهم من يزين تلك الشواهد بالأزهار والورد إذا كان الفقيد حديث العهد تعبيراً عن حزنهم ولوعتهم .

ومن ثم يصبون الماء في مطمعة القبر (مكان وضع الآس أمام الشاهدة) ويحصلون على الماء من أطفال يتجولون بين القبور مدللين على بندائهم المألوف

يا ارحم الراحمين .... ربي عفوك ورضاك ... مية عاوز ..

فيبرون أولئك الأطفال ببعض النقود .. ثم يقرأ القرآن ، وقد يكلفون من يقوم بذلك

وغالبا ما تختص الأسر العريقة الموسرة بأجنحة خاصة من المقابر أو أنهم ينصبون الخيام ويضعون الكراسي الصغيرة لاستقبال من يزور موتاهم في هذه المناسبة. وفي أول يوم من أيام العيد يتحتم على كبير العائلة صلة الرحم، كما أن أفراد العائلة يلتقون في المسجد لتقديم التهاني لكبير الأسرة ثم الذهاب إلى داره عقب الصلاة للقاء على مائدة إفطار عامة ضحى اليوم الأول من شوال يحضرها بالإضافة إلى ذلك من ثابت زيارته من غير أفراد الأسرة في ذلك الوقت ..فإذا ما تم ذلك ينطلق كل فرد إلى داره ... فيكون الأطفال بانتظاره وقد ارتدوا ثيابهم الجديدة كاملة من الطربوش إلى البابوج (الحذاء) فيتراكضون لتقبيل الأيادي ويمدون أيديهم لتلقي العيدية ، فإذا ما حصلوا على مبتغاهم انطلقوا إلى العيد ليقضوا أمتع الأوقات على نحو ما ذكرنا ..

وفي محلة سيدي عامود (الحريقة اليوم) كان يتمركز العيد وإلى هذه المحلة يتوافد أبناء القرى المحيطة بدمشق ليعبروا عن ابتهاجهم ومشاركتهم بالعيد فيعقدون حلقات الدبكة وتصدح الآه والأوف والميجانا بمصاحبة ناي يشدو وطبل يوقع القدم مع القدم ويرص الصفوف ويوحد حركاتها.

 

 

بسطات العيد

 

أما البسطات فتتغير هويتها فقد أصبحت الآن للأطفال ويا لروعتها في نفوس الأطفال, أنها حلمهم المجنح وفرجتهم المختارة , وعلى معروضاتها ينفقون معظم عيدياتهم. يتجمع الأطفال مشدوهين أمام تلك الدكك الخشبية (البسطات) التي تحولت بالستائر الخضر والحمر إلى حوانيت في الهواء الطلق , بما صف عليها من السكاكر والألاعيب, والفتيش , ومن هذه البسطات ما صف عليها أطباق (صحون) صغيرة مملوءة بالملح والكمون. وقد صف حولها بعض الكراسي وإلى جوارها حلة مملوءة بالفول النابت, وإلى جانب منها نصب حاجز قماشي حتى تستطيع البنات الشابات أخذ حريتهن في أكل الفول النابت, فالذي لا يأكل الفول النابت, (ما لو عيد) .

 

 

ومن البسطات ما نضد عليه أكداس من طواحين مخلل اللفت والخيار واليخنا (الملفوف) .. فيقبل الأطفال على التهام صحونها المرقشة بهذه الأصناف ويغمسون في مرقها كعك الشرك الخاص بها, كل ذلك بالإضافة إلى بسطات حلاوة الملوق وحلـّي سنونك وشرابات الطويلة والقصيرة.

 

 

ألعاب العيد

 

والفُرَج أيضاً تعطي العيد رهجة لها نكهة خاصة ففيها من الغريب والمشوّق لدنيا الأطفال ما يشد الرغبة إليها وخاصة الرأس المقطوع والضبع (الذي أكل بياع الحلاوة على طريق جوبر) والحاوي ويده الخفيفة وأساليبه المبهرة وقفشاته التي تأخذ بألباب الأطفال, وتنقلهم إلى عالم الخيال.

 


ويتوج ذلك كله عربات (طناجر مريكب) ومحمل الهودج المحمول على الجمال المزدانة بالأجراس والأغصان والسجاد, وتنتشر تلك العربات في أنحاء الحي والأحياء القريبة المجاورة , فيقبل على الركوب فيها الأطفال بشغف زائد ويحرك شوقهم كشكول العربة, وهو يحث الأطفال على الركوب بشكله الغريب, وثيابه المذهلة وحركاته المضحكة, وندائه المحبب إلى نفوسهم . فيتكدس الأطفال بالعربة وتنطلق بالمسير وراء بغلها المزدان أيضاً بالأجراس وأنواع الريش والخرز. فتنطلق الحناجر بالأهازيج على نقرات الدربكة مرددة مع الكشكول أو مع من يتطوع من الأطفال بجذل وإشراق. ومن ذلك :

يا ولاد محارب ... واليوم عيدي .. وبكرة العيد ومنعيد , وقد اخترنا من هذه الأهازيج :

اليوم عيدي       يا لالا                   البست جديدي      يا لالا

فسطاني الأحمر يا لالا                   عالصدر مكشكش يا لالا

وئف عالكرسي يا لالا                   احكي افرنسي     يا لالا

أويها منجدد ....                          أويها منجدد ....

ومنها أيضاً :

عالبابا    عالبابا                 والجامع دوابا

عطونا عروستنا                ما منعطيكم ياها

إلا بألف ومية                  يا كعك ويا  تمرية

كعك الشام غالي              تسلم دئن خالي

خالي بالبرية                  عم ياكل تمرية

شعل ضو طفا ضو          آ ل المدفع بو ّ